إهمال الإصلاحات فوّت على لبنان فرصة تحويل نمو “منظومة الإقتصاد الجزئي” إلى الكلّي
أيام قليلة تذهب “سكرة” المغتربين، وتعود “فكرة” الركود الاقتصادي التضخمي. مئات الآلاف عادوا بعد نحو 3 سنوات من الحجر القسري، وفي نيتهم الاطمئنان إلى أهاليهم ومساعدتهم قدر المستطاع مع مجتمعاتهم الضيّقة. وباستثناء الإنفاق الاستثماري البعيد المدى على تركيب أنظمة الطاقة الشمسية، فإن الجزء الأكبر من الإنفاق هو استهلاكي آني، تنتهي مفاعيله بعد أشهر قليلة من مغادرة المغتربين بعد منتصف آب بالحد الأقصى.
التعويل على المغتربين في إحداث فرق إيجابي في الوضع الاقتصادي لم يكن على قدر التوقعات لسببين أساسيين:
الأول، يُلخص بتجذّر السوق السوداء، ووجود أكثر من نصف الاقتصاد “في الأسود”، ما يحرم الخزينة من الإيرادات، ويضعف القدرة على الإنفاق العام الاجتماعي والصحي، وينافس المؤسسات الشرعية الملتزمة. هذا فضلاً عن اهتراء البنية الاستثمارية لأكثرية القطاعات الخدماتية، وانحصار المعروض بالأساسيات التي لا تعود على أصحابها بأرباح كبيرة.
الثاني، ويختصر بضغوط سياسات مكافحة التضخم على العملات. حيث تهاوت أقواها، وفقد اليورو أكثر من 11 في المئة من قيمته، وأصبح من الصعوبة بمكان رفع قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، رغم كل عمليات ضخ النقد الصعب في الاقتصاد.
نمو منظومة الاقتصاد الجزئي
على الرغم من تدني المنافع البعيدة المدى لطبيعة إنفاق المغتربين، “إلا أنه ساعد على تعزيز منظومة الاقتصاد الجزئي في مختلف المناطق اللبنانية”، برأي رجل الأعمال ريكاردو حصري. فـ”ارتفاع نسبة الإشغال في الفنادق والمطاعم وأماكن السهر والمسابح… لا تنعكس إيجاباً على المؤسسات السياحية بحد ذاتها فقط، إنما يستفيد من الدورة الاقتصادية التي تولّدها كل من: المزارع، والتاجر، والمورّد، وعمّال المصالح الحرة، وشركات الصيانة، وآلاف الشباب اللبناني الذي ينتظر هذا الموسم لتأمين أقساط جامعاته”. ولعلّ الأهم بحسب حصري هو أن “ما يجري نتيجة الظروف، يضع اللبنة الأولى لقيام اللامركزية، التي “بح صوتنا” ونحن نطالب بها. حيث تتفرد كل منطقة بإبراز قيمها المضافة وبمشاريعها الجاذبة للاستثمارات والسياحة الداخلية والخارجية، وتشغيل اليد العاملة، والاستفادة من العائدات التي تولدها لتحقيق النمو والتنمية”.
تعمّق الخلل البنيوي
المشكلة أن مفعول إنفاق المغتربين الكبير نسبياً بالليرة اللبنانية، محصور بأشهر قليلة. وهو إن ساعد على تأمين مداخيل إضافية لبعض شرائح المجتمع، إلا أنه يزيد الطلب بشكل كبير على الاستهلاك. وبالتالي على الاستيراد وزيادة العجز في الميزان التجاري، ومن خلفه ميزان المدفوعات. صحيح أن هذا الخلل البنيوي في طبيعة الاقتصاد اللبناني ليس وليد الساعة، إنما خطورته اليوم مضاعفة، وتتمثل بشكل أساسي في عدم معالجة أماكن الخلل على الرغم من وقوع الانهيار الاقتصادي. فالسلطة لم تهمل الإصلاحات الجوهرية فحسب، إنما ساهمت على مدار السنوات الماضية بشكل عام، وسنوات الأزمة الثلاث بشكل خاص، بضرب كل مقومات صمود البلد وإمكانية توسيع الاستفادة من الفرص، والتي منها الوجود الكثيف للمغتربين. فـ”أخفقت بتوفير الظروف المقبولة، وأبسط المتطلبات الحياتية والعملية”، برأي حصري. إذ يطالب المغتربون بالاستثمار في الوقت الذي يتعرضون فيه لسرقة ممنهجة من الدولة والنظام المصرفي. والقطاع العام مُضرِبٌ عن العمل، ولا يمكن إجراء أبسط معاملة أو تسديد الرسوم، ومنها بشكل أساسي رسوم الانتقال وتسجيل الشقق والعقارات التي اشتروها عن بعد خلال العامين المنصرمين. وحاويات التجار المحمّلة بالسلع والمواد الغذائية عالقة في المرفأ، ما يضطرّ التجار لبيع السلع بـ”القطارة”. ومنافذ التصدير مقفلة بسبب سياسات الدولة… كل هذه العوامل لا تسمح بالاستفادة من وجود المغتربين على المدى البعيد، وتحصر الاستفادة لفترات قصيرة. وأكثر من ذلك “لم يتخذ أي إجراء جدي لإدخال التحولات التي حكي عنها على الاقتصاد من استهلاكي إلى منتج وفعال”، من وجهة نظر حصري. “ولا تطوير القوانين الضريبية والاستثمارية للحد من تنامي الاقتصاد غير الشرعي، وتقليص حجمه من الناتج المحلي الاجمالي الذي وصل إلى 60 في المئة بحسب تقرير منظمة العمل الدولية”.
الاقتصاد الاسود
السياسة النقدية تفوت فرصة الاستفادة
ظاهرة أخرى مستجدة يلاحظها الباحث في الاقتصاد السياسي والاجتماعي طالب سعد وهي: “حصر إنفاق المغتربين بالحاجة، وتقصير فترات عطلاتهم”. فإطالة فترة الاقامة تتطلب جهداً ووقتاً لتأمين الاساسيات من ماء للاستعمال والشرب، وكهرباء بديلة عن المولدات، وخط مسبق الدفع للهاتف الخلوي، والانتظار في الطوابير لشراء الخبز، والبحث المضني عن بعض أصناف الأدوية… كل هذه العوامل تدفع بالمغتربين برأيه إلى “تفضيل وجهات سياحية ذات خدمة جيدة. الأمر الذي حد من مستوى الإنفاق بشكل عام”.
من الجهة الثانية يرى سعد “أن الفجوة النقدية في الاقتصاد توسعت إلى درجة لم يعد بمقدور المغتربين، مهما كان عددهم، تغطيتها من خلال ما ينفقونه بالعملة الصعبة. ولذلك لم نلمس أي تحسن في سعر الصرف”.
من الواضح أن المركزي يقوم بلمّ الدولارات المنفقة لهدفين أساسيين:
– التوسع بطباعة الليرة اللبنانية لتلبية الطلب المتزايد على العملة الوطنية.
– تأمين السيولة لفتح الاعتمادات لشراء القمح والادوية والبنزين… وغيرها من السلع والمتطلبات التي ما زالت مدعومة بشكل أو بآخر.
وبغض النظر عن فوضوية السياسات النقدية المعتمدة لجهة لمّ الدولار وطبع الليرات وانعكاساتها السلبية، إلا أنها إجبارية برأي سعد. ولا سيما مع غياب الخطط الواضحة والصريحة لتحسين القيمة الشرائية لرواتب موظفي القطاع العام. والتوسع في مضاعفة الرواتب واحتسابها على سعر الصرف غير الرسمي، مع ما يتطلبه هذا الامر من طباعة المزيد من الليرات. ومع الاسف فإن سياسات الانفاق التوسعية للدولة بالليرة لا تترافق من وجهة نظر سعد “مع اتخاذ القرارات الاقتصادية الصحيحة، وإقرار القوانين الاصلاحية المجمدة، وتحفيز عودة الاستثمار وفتح فرص العمل. بل على العكس يترك البلد لإدارة البنك المركزي ولعبة تعدد أسعار الصرف. ما يضطره إلى اتخاذ مثل هذه الاجراءات لمنع تهاوي الليرة أكثر مقابل توسع الكتلة النقدية بالعملة الوطنية”.
مرة جديدة تفوّت السلطة السياسية فرصة ذهبية على لبنان واللبنانيين نتيجة عدم القيام بالإصلاحات المطلوبة. فانعدام الثقة بالمنظومة، وتردي البنى التحتية، وسيطرة الفوضى، وكثرة الرشى التي يضطر المغتربون لدفعها، والاستغلال الذي يتعرضون له… عوامل كانت بمثابة الثقب الاسود الذي لم يبتلع إنفاق المغتربين فقط، إنما هدد بتضاؤله بنسب أعلى بكثير مستقبلاً إذا بقي الوضع على ما هو عليه، هذا إن لم يسؤ أكثر.