طلبت من وزير الخارجية والمغتربين في اللقاء الدبلوماسي الذي عقد في مقر الوزارة في بيروت عام 2014، تفعيل اللجنة الوطنية للتنمية المستدامة ودفع الوزارة للعب دورها في التنسيق بين الإدارات المختلفة لتحقيق خطة وطنية شاملة تدفع بالإزدهار في البلاد. هزأ معاليه وكاد يضحك. فهو لم يفهم معنى التنمية المستدامة ولم يفهم كيف يمكن أن تلعب وزارة الخارجية والمغتربين دورا لإقامة خطة تدفع بالازدهار في البلاد. لكن معاليه لم يسمح لي بعرض هذا المفهوم. وهو هزأ أيضا من حديثي عن الشركات المختلطة (Joint ventures) ولم يفهم معناها إلا بعد أن شرح له وزير السياحة السابق ورئيس جمعية الصناعيين الأستاذ فادي عبود في اللقاء الدبلوماسي في بيونس ايريس في كانون الأول 2014 أهمية هذا المنطق بغية تعزيز الاقتصاد في لبنان.
على أثر ذلك طلب مني معاليه أن أقوم بتنسيق النشاط الاقتصادي لسفاراتنا في أميركا اللاتينية. اعتذرت مؤكدا أن هذه هي مهمة الوحدة الإدارية المعنية في وزارة الخارجية والمغتربين التي لا تتسلم تقارير اقتصادية من سفارات لبنان في أميركا اللاتينية فحسب، بل من كل سفاراتنا في العالم. وقلت إنه من واجبها أن تضع صورة واضحة بهذا الصدد أمام معاليه ليرفعها إلى مجلس الوزراء ويعرض أين هي مصلحة لبنان التي على ضوئها يجب إرساء استراتيجية العلاقات الدبلوماسية للبنان بحيث تشمل كل الإدارات الأخرى المعنية بالتنمية الاقتصادية.
ووضعت من جهتي تحليلا مقتضبا ولكن شاملا عن مصلحة لبنان في أميركا اللاتينية استندت فيه إلى مبادىء يفترض أن يعرفها كل من يتعاطى العلاقات الدولية وهي حماية المصالح والقضايا الوطنية والفرص المتاحة لخدمة الاقتصاد الوطني وأخيرا الاستفادة من حضور ودور الجاليات اللبنانية. فلبنان يقيم علاقات دبلوماسية مع عدد كبير من الدول بل هو من أول الدول العربية التي افتتحت لها سفارات في إفريقيا وأميركا اللاتينية، غير أن لبنان تخلف كثيرا عن اللحاق بالتطوّرات التي شهدتها العلاقات الدولية وتجمدت علاقاته منذ سنين عند الذكريات والعواطف فيما باقي الدول تسارع لتعزيز حضورها. ولولا بعض الزيارات اليتيمة لمسؤولين لبنانيين بين الفينة والأخرى لبعض هذه الدول، فإنه يمكن القول أن العلاقات الدبلوماسية اللبناية مجرد لوحة بروتوكولية.
لا توجد استراتيجية دبلوماسية بل إن الدبلوماسية اللبنانية صارت ملحقة بمصالح السياسيين المحليّة. وقد كان لبنان قبل الحرب الداخلية فيه عام 1975 قبلة العالم العربي وشعاعا حضاريا وملتقى للثقافة المسيحية الغربية بالثقافة الإسلامية الشرقية ودولة شبه حيادية يسودها السلام والمواقف المعتدلة حول كل القضايا بما في ذلك قضايا المنطقة، كل ذلك جعل للبنان مركزا مميزا في ضمير المواطن في العالم. ولكن انخراط لبنان في قضايا المنطقة وتحوله إلى ساحة للصراع العربي – الإسرائيلي، وللصراع القائم في المنطقة، ثم بروز قوى محليّة تتحدث لغة متشدّدة إزاء محاور دوليّة وإقليمية وكذلك ضد دول فاعلة ولا سيما الولايات المتحدة ترك ندوبا كبيرة.
ثمة حاجة إلى أن تتوقف الدبلوماسية اللبنانية عن الحديث في الخارج بلغة تعتمدها في حديثها أمام الشارع المحلي. علينا الانطلاق إلى الاعتبارات الأشمل ولاسيما لجهة التركيز على رغبة لبنان بالسلام والتزامه إعلان قمة بيروت. والتركيز على احترام لبنان اتفاقية الهدنة لعام 1949 والقرار 1701 كقاعدة للتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي. إن شعارات المقاومة لم تعد مقبولة ولا محمولة. المقاومة أصبحت لدى غالبية الدول مرادفة لعناوين سياسية وإيديولوجية لها صلة بواقع المنطقة وليس بالاحتلال الإسرائيلي في لبنان. وقد تكرس هذا الأمر منذ إعلان الامم المتحدة عام 2000 بأن اسرائيل نفذت القرار 425. وزاد هذا الأمر تكريسا بعد صدور القرار 1701 لعام 2006.
نحن بحاجة للتركيز على دور لبنان الرسالة ورفع هذا الشعار إلى مصاف القدسية، وعلينا التركيز على إعادة هذه الصورة الخاصة للبنان كبلد التعايش والتآلف ليس فقط بين المسيحية والإسلام بل أيضا مع اليهودية. لقد حصدت أكثر من دكتوراه فخرية والميكروفون الذهبي والميدالية الأيبرأميركية والكثير من التنويهات لأني قمت بالتركيز على هذه الجوانب. لبنان الجميل بطبيعته وإنسانه وتاريخه ورسالته الحضارية لن يعيد لبنان إلى قلوب الناس في العالم فحسب بل سيعيد الجالية اللبنانية إليه.
سيكون من الخطأ الاستناد إلى مواقف سياسية راهنة لبعض الدول للقول بأن هذه الدول ما زالت تنظر النظرة ذاتها إلى لبنان القديم. فهذه الدول باتت تنظر إلى لبنان من موقع مصالحها السياسية. ولم يعد لبنان ذلك البلد المميز الخاص في تركيبته ودوره الإنساني الذي كان ينظر إليه فوق كل الاعتبارات السياسية والإيديولوجية القائمة. ومن المؤسف أننا لم نغتنم الفرصة التي منحنا إياها الغرب الديموقراطي ولا سيما الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا التي أدركت بعد حرب العراق 2003 صعوبة تحويل التركيبة الثقافية في المنطقة عسكريا وتذكرت أنها كانت تضحي بالدولة الديمقراطية والصديقة للغرب في هذه المنطقة العربية مجانا.
فقد استعادت هذه الدول نظرتها الاستراتيجية لدور لبنان الثقافي والإنساني في المنطقة. ولهذا كان لقاء واشنطن عام 2007 بين الرئيسين بوش وساركوزي والذي انطلقت من بعده فكرة حياد لبنان. حياد لبنان كان يمكن أن يصبح مدماك السياسة اللبنانية مع الحفاظ على تمسكنا بشرعة وقرارات الأمم المتحدة بشأن حق تقرير المصير للشعوب بما في ذلك الشعب الفلسطيني ورفض التوطين إضافة إلى تمسكنا بمبادئ إعلان قمة بيروت لعام 2002 واتفاقية الهدنة وتمسكنا بالقرار 1701 كوسيلة أساسية لتسوية الواقع القائم في الأراضي اللبنانية التي تحتلها اسرائيل ويعتبر المجتمع الدولي أنها خاضعة للقرار 242. لكن هجمة القمصان السود قضت سريعا على مثل ذلك الحلم.
وقد عقد مجلس الأمن اجتماعات من أجل لبنان وأقام مجموعة أصدقاء لبنان وتم عقد مؤتمر خاص في روما لتعزيز قدرات الجيش اللبناني. لكن على الرغم من أن كل تلك الاندفاعة كان سببها باختصار أن لبنان صار مخيما للاجئين ويجب حمايته من الانفجار كي لا تشهد أوروبا تدفقات جديدة من اللاجئين، فقد كان من الممكن الاستفادة من هذه الحالة من خلال تحييد لبنان عن مشاكل المنطقة. فلو نأينا بأنفسنا عن تلك المشاكل فإن لبنان كان يمكن أن يصبح مؤهلا أكثر من أي بلد عربي آخر لقيادة الانفتاح القائم في المنطقة باتجاه العالم ولعب دور الوسيط الخادم للجميع في هذه العلاقات.لقد حظينا بدعم دولي نادر ولم يسبق له مثيل. تلك اللقاءات أرسلت رسائل تبقى ضمنا أهم من الرسالة التي أرسلها مؤتمر سيدر الأخير. لكننا لم نصغ لهذه الدول. وأنا على ثقة أن أي حل للاجئين سيبدل من تعاطي هذه الدول معنا.
على لبنان الاستفادة من موقعه المعنوي الكبير في الضمير الدولي والاستفادة من مميزاته. لبنان لديه ميّزات فريدة تسمح له بأن يتحول إلى مقر دائم للشركات والمؤسسات الدولية العاملة مع الدول العربية. ويمكن استعادة دور لبنان لما قبل العام 1975. فلبنان يتمتع بطبيعة غناء وثقافة مشابهة للثقافة الغربية وبحريات عامة شاملة وبمؤسسات أكاديمية وصحيّة وسياحية ومالية ممتازة. كما أنه يتمتع برأسمال بشري كبير. كل ذلك يؤسس لاجتذاب المستثمر وصاحب الشركة. والمطلوب هو تفاعل إداري ورسمي مع هذه المعطيات لتسهيل حركة المستثمر سواء على صعيد التواصل السريع مع الدول الأخرى أو على صعيد تسهيل الخدمات الإدارية.
كما أن لبنان يتمتع أيضا بميزة إضافية تتعلق بالملكية الفكرية. فلبنان لديه قدرات كبيرة تسبق كل الدول العربية لجهة البرامج الفنية والموسيقية والسينمائية والأزياء وطباعة الكتب والترجمة والأعمال المسرحية وغيرها. ومثل هذا الجانب من النشاط الاقتصادي أصبح جانبا فاعلا في حركة التعاون الاقتصادي. ولكن مثل هذا النشاط يفترض حركة من وزارة الثقافة بالتعاون مع المؤسسات الخاصة التلفزيونية والموسيقية وغيرها نحو العالم.
ويمكن لرجال الأعمال في لبنان الاستفادة من قوة وفعالية رجال الأعمال من أصل لبناني في مختلف دول العالم لإقامة شركات مختلطة وتوسيع قاعدة تجارة لبنان مع هذه الدول. وهذا الأمر يتطلب عقد معارض أو لقاءات دورية بين رجال الأعمال اللبنانيين وأخوانهم في تلك الدول.
كنت أراقب عن كثب المساعي العديدة التي تقوم بها بعض الدول العربية باتجاه أميركا اللاتينية لكنها لم تؤد إلى نتائج كبيرة بسبب عدم حماس اللاتيني إجمالا. فظلت معظم تلك العلاقات على مستوى الحكومات والصناديق التابعة لها. وكنت مقتنعا بأن تحريك العلاقات بشكل فاعل بين أميركا اللاتينية والدول العربية يعتمد على تحرك القطاعات الخاصة المحلية، وعليه طالبت بتحريك الجاليات اللبنانية التي تتواجد في معظم دول المنطقة مما سيخدم مصالحها ومصالح الدول المعنية ويتيح للبنان تلقائيا أن ينتفع منها ويتحول إلى مقر لحركة النشاطات التجارية والاقتصادية في المنطقة.
طلبت من الوزير باسيل، الذي رفع شعار «الدبلوماسية الفاعلة»، وراح يجول دول العالم، ويعقد اللقاءات الدبلوماسية القارية والجماعية لهذا الغرض، أن يعير الاغتراب اهتماما خاصا، وأن يجعل هذا الاغتراب جزءا من حركة التطور والتنمية الاقتصادية للوطن الأم، فالاغتراب هو الخزّان البشري اللبناني والثروة الضخمة التي ما زال لبنان يتجاهلها ولا يسعى للاستفادة منها.
ولطالما أكدت أن الاستناد إلى العاطفة في العلاقة مع الجالية لن يثمر أية نتائج جدية وأن المطلوب هو خلق الشعور لديهم بوجود مصلحة لهم مع لبنان ومن خلال لبنان. ولذلك طالبت بتحويل المؤتمرات الاغترابية إلى مؤتمرات قطاعية هادفة كما كان يفعل الشهيد رفيق الحريري فلا تكون همروجة عاطفية وطائفية. إن العلاقة مع الاغتراب اللبناني لن تؤتي ثمارها إلا إذا خرجت من السياق السياسي وتحولت إلى مسألة وطنية وتم دمجها في كل الاعتبارات القائمة ولا سيما التربوية (إنشاء مدارس للبنان في المغتربات) والاقتصادية (إنشاء غرف تجارة لبنانية في الدول الاغترابية وإقامة صلات قوية مع الغرف القائمة) والصناعية (السعي لإقامة مشاريع مشتركة والاستفادة من الطاقات الاغترابية الصناعية) والعلمية (التعاون من خلال مراكز البحوث مع الطاقات العلمية الاغترابية ) والأكاديمية (التعاون مع الأكاديميين في الجامعات اللاتينية ) والفنية (التعاون مع الفنانين من أصل لبناني) وغيرها من أوجه الحياة العامة في البلاد. لبنان يحظى بمحبة وتقدير لا صلة لها بالمصالح الضاغطة للدول. فاللبنانيون ليسوا طائفة لكي يكون انتماءهم إلى لبنان عنوانا طائفيا أو فئويا. وعليه فالتعاون معهم لا يجلب أية كراهية او عدائية من قبل الشعوب الأخرى. وباختصار لن يمكن تحويل كل ما سبق إلى حقيقة ما لم يتم تحييد لبنان وجعله سويسرا أخرى في هذا النظام العالمي الجديد.
من المؤسف أن صوتي ظل صدى في واد، فالمصالح السياسية لرئيس الدبلوماسية اللبنانية لم تكن ترى في الاغتراب إلا مجموعة عددية يمكن أن تصب في صناديق الانتخابات لمصلحته. كما لم يعد خافيا أنه أسر الدبلوماسية اللبنانية في علاقات لبنان الخارجية تحت هذا العنوان وعليه فأي ازدهار اقتصادي نتوقع؟
(أوستن في 3 نيسان 2019)