لعل أكثر ما تمكّن العهد من تحقيقه، هو أن «المقاومة الاقتصادية» التي أطلقها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في آذار الفائت أصبحت أمراً واقعاً. فعون دعا اللبنانيين إلى أن يأكلوا مما يزرعون وإلى الامتناع عن شراء منتجات أجنبية، وحثّهم على السياحة الداخلية بدل إنفاق أموالهم في الخارج. وفيما كان الوزير جبران باسيل ينتقد صرف اللبنانيين أموال سلسلة الرتب والرواتب على رحلاتهم خارج لبنان، كانت الحكومة تبحث في ضرائب جديدة على بضائع مستوردة إضافة إلى الرسم الجمركي، رغم اعتراض الهيئات الاقتصادية والتجارية.
بعد أشهر على هذا الخطاب، بات اللبنانيون فعلاً أمام نموذج اقتصادي جديد، لا قدرة لهم معه لا على السفر إلى الخارج ولا على شراء منتجات أجنبية، في موازاة ارتفاع السلع اللبنانية المنشأ. هي حالة استثنائية لم يشهدها لبنان منذ عام 1975، حتى مع انخفاض سعر الليرة في عهد الرئيس أمين الجميل. ففي عزّ الحرب اللبنانية، ونتيجة تدفّق الأموال من تنظيمات ودول عدة، واختلاف وضعية المصارف، وبسبب انتشار المرافئ غير الشرعية والتهريب والعلاقات مع دول الجوار التي لم تكن متفجّرة كما حالها اليوم، كانت حالة التطبيع الاقتصادي والمالي «مزدهرة» في كل الكانتونات التي كانت قائمة آنذاك. منذ انتهاء الحرب، ومع انفلاش مشروع الرئيس رفيق الحريري الإعماري والاقتصادي، تراكمت حالة التدهور سنة بعد أخرى، لكنها ظلت مغطاة بقشرة رقيقة من المظهر البرّاق نتيجة استتباب حالة السلم. بعد سنة 2005، وحتى اليوم، ونتيجة تغيّر ظروف المنطقة وصعود بعض القوى السياسية وهبوط أخرى، وحرب تموز ومن بعدها الصدام السُّني – الشيعي، تراجع المشهد الاقتصادي لمصلحة واقع سياسي تتقاطع فيه كل خلافات المنطقة ومصالحها.
ما حصل مع العهد الحالي هو أن الحالة الاقتصادية انكشفت فعلياً بكل عوراتها. صحيح أن عون لا يتحمّل مسؤولية الفساد المتراكم منذ التسعينيات، ولا تبعات الانهيار الاقتصادي والمالي الذي هندسته سياسات مصرفية. لكن منذ ثلاث سنوات، بيّنت حكومتا العهد، اللتين له فيهما حصة وازنة وأكثر، انهما قد تكونان الأسوأ في تاريخ الجمهورية الثانية بحسب توصيف أحد السياسيين. ورغم محاولات رئيس الجمهورية تغيير النهج القائم بطروحات إصلاحية، بقيت محاولاته كلامية وحبراً على ورق، في وقت وُجّهت اتهامات كثيرة إلى ممارسات فريقه السياسي مالياً واقتصادياً، والتي ساهمت في تعزيز المنظومة القائمة، ما أدى إلى انفجار الأزمة في وجهه وحده. بعد أسابيع الانتفاضة الشعبية، تحوّل استهداف الرئيس نبيه بري والرئيس سعد الحريري إلى زاوية أخرى، بعدما قدّم الحريري استقالته ثم قاد مفاوضاته الحكومية على وقع نزول مناصريه على الأرض، والأول من خلال تحريك مناصريه على الأرض في مواجهة قطع الطرق والمتظاهرين، لا سيما بعد فشل انعقاد جلسة مجلس النواب. في المقابل خسر عون فرصته أكثر من مرة في التقاط كرة النار الاقتصادية والسياسية. رغم أنه أطلّ مخاطباً اللبنانيين، مرات عدة وأكثر بكثير من إطلالات بري والحريري المقتضبة، لكن ذلك لم يشفع له، بل راكم الانتقادات ضده. هناك أزمة حقيقية في إدارة فريق عون لأن العامل الشخصي طغى على أسلوب المعالجة. وبدل الفصل بين الأزمتين السياسية والمصرفية والمالية، دمجت إدارة هذا الفريق بين الأزمتين، ما أفقدها القدرة على القيام بخطوات إنقاذ سريعة في المجال النقدي الذي تتّهم بأنها تغطي عثراته، لأن أزمة السيولة والإدارة السيئة للقطاع المصرفي مزمنة وكانت مرشّحة للانهيار، حتى لو لم تنفجر الحركة الشعبية في وجه الحكومة والدخول في أزمة التكليف والتأليف. وهذا يعني أن رئيس الجمهورية كان، ولا يزال، قادراً على أن يؤدي دوراً فاعلاً في وضع حالة طوارئ مالية تتقدّم على الاستشارات الحكومية. لأن أي حكومة، مهما كان نوعها، لن تتمكن في ظل الأزمة الراهنة من اجتراح العجائب في وقت قصير ووقف انهيار سعر الليرة وتهرّب المصارف من تسديد مستحقات المودعين. ففي ظل حكومة تصريف الأعمال، وتدهور الوضع الأمني والمالي، يمكن لعون أن يدعو إلى اجتماعات أمنية مماثلة للمجلس الأعلى للدفاع، وإلى وضع السياسة المالية على الطاولة، لاتخاذ إجراءات فورية كفيلة بطمأنة المودعين بدل الاكتفاء بالتبريرات الوهمية لجمعية المصارف ورئيسها وحاكم مصرف لبنان.
حتى الآن يكتفي العهد بتسجيل النقاط في مرمى الحريري، رغم أن الجميع يعرف أنه بات لا يكنّ ودّاً له، ويفضّل أي شخصية سنية عليه، وهو يستفيد من عدم وجود ما يفرض عليه مهلاً للاستشارات كما هي حال أي رئيس مكلف، فيغرقان معاً في أزمة صلاحيات من دون الالتفات إلى الأزمة المعيشية التي تزداد حدّة. يقول أحد الوزراء إن الوضع الاقتصادي والمصرفي على شدّته يصرف نظر الناس عن الأزمة السياسية. فهل هذا يعني أن إهمال المعالجات المالية مقصود أيضاً. النوم على حرير انشغال الناس أمرٌ فيه مجازفة كبيرة، لأن هؤلاء على موعد في نهاية الأسبوع مع مواجهة جدية لاستحقاق يتعلق برواتبهم وتقريشها بعد ارتفاع أسعار كل السلع وانخفاض سعر الليرة، ناهيك عن تدهور القطاع الاستشفائي بكل مستوياته، وبدء التوترات الأمنية. وهم سيكونون أمام مفترق طرق: إما الاستسلام الكلي للطبقة السياسية والمالية مع كل مستلزمات اليأس المزمنة، أو مواجهات تأخذ هذه المرة أساليب جديدة لاستعادة حقوقهم.