لا شك في انّ الارقام التي كشفتها الهيئات الاقتصادية في شأن التراجع في أداء معظم القطاعات الاقتصادية مُقلق، ويعطي فكرة مبدئية عن الانهيار الذي قد يصيب الاقتصاد، في حال استمرت الـ»ميني حرب» على حدودوه الجنوبية، في مواكبة الحرب الكبرى في غزة، والتي يتردّد انها قد تطول، وان توقفها ليس مسألة ايام او حتى اسابيع…
من المعروف انّ القطاعات الاقتصادية لا تتأثر كلها بالتساوي في حالات الحروب الجزئية او الشاملة. في لبنان، لا نزال تحت سيطرة الحرب الجزئية، التي من البديهي انها تضر الاقتصاد، لكن لا مجال للمقارنة بينها وبين خسائر الحرب الواسعة. ومع ذلك، هناك من يتخوّف من حروب الاستنزاف على اعتبار انها يمكن ان تطول اكثر بكثير من الحروب المدمرة. وبالتالي، تصبح الاضرار هنا جسيمة وعميقة مع مرور الوقت، وقد لا تقل ضرراً عن الحروب المدمرة. كما ان الحروب المدمرة عادة ما تليها مشاريع اعادة اعمار، في حين ان حروب الاستنزاف تنتهي، ويكون الاقتصاد مُنهكاً، لكنها لا تشهد في العادة مشاريع اعادة تأهيل، خصوصا من قبل دول خارجية.
من هنا، تبدو الاضرار التي تتسبّب بها الحروب الجزئية الطويلة، مؤذية، لأن اضرارها قد تمتد لسنوات اطول من الفترة التي قد يستغرقها بناء اقتصاد دولة مرّت عليها حرب شاملة ومدمرة، وانتقلت الى مرحلة الاستقرار والسلام. وهناك نماذج عديدة في العالم، بينها نموذج اعادة بناء المانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وفق مشروع مارشال الذي نقل البلد المُدمَّر بنسبة مهولة، الى دولة قادرة على النمو والتطور الاقتصادي في غضون خمس الى ست سنوات. وهذه فترة قياسية بالنظر الى حجم الاضرار التي اصابت بنيان الدولة بقطاعيها العام والخاص.
نموذج آخر يمكن النظر اليه، ولو انه لم يحظ بحجم الدعم الخارجي نفسه الذي حظيت به المانيا بعد الحرب. انه النموذج الفيتنامي. ولا حاجة الى التذكير بحجم الدمار الشامل الذي تعرض له هذا البلد على مدار سنوات طويلة من الحروب. ومع ذلك، عندما لاحت مؤشرات السلام والاستقرار، وبعد ورود بعض الدعم الخارجي، نجح الاقتصاد الفيتنامي في الوقوف على رجليه. ويمكن القول ان ورشة اعادة بناء اقتصاد السوق، رغم ان النظام السياسي لا يزال شيوعيا حتى اليوم، بدأت فعليا في مطلع التسعينات. وفي غضون عشر سنوات، اصبح الاقتصاد الفيتنامي من الاسرع نموا في العالم، وتفوق على اقتصاد الجارة الكبرى الصين. طبعا، في هذه الفترة، انفتحت هانوي على المساعدات الدولية، وتعاونت مع البنك الدولي لتمويل اعادة تأهيل وتطوير البنى التحتية في الدولة، لتصبح مؤهلة لجذب الاستثمارات الخارجية. وهذا ما سمح لها بأن تتحول، وعلى غرار الصين، الى مصنع للعالم، بحيث تم اعتمادها ليس فقط من قبل الدول الصناعية، بل ايضا من قبل دول شرق آسيا. وهانوي اليوم، والتي اعتاد زعيم المختارة وليد جنبلاط استخدامها في تصاريحه، عندما كان يقول انّ علينا ان نختار اي نموذج نريد للبنان : هونغ كونغ ام هانوي، لم تعد هي نفسها، ولم تعد نموذجاً للحرب والخراب والفقر، كما كان معروفاً عنها.
طبعاً هذه النماذج لا تعني ان اضرار الحروب الصغيرة كالتي يشهدها جنوب لبنان حاليا، هي اكثر ضررا من الحروب الشاملة والمدمرة، لكن هذه النماذج تدل على انه عندما تنتهي الحروب المدمرة ويتمّ الانتقال الى سلام دائم، واستقرار ثابت، تكون ورشة اعادة النهوض الاقتصادي أسرع وأثبت. لأنّ العثور على اصدقاء دوليين، وعلى دول راغبة وجاهزة للمساعدة، لأن مساعداتها تكون نوعا من الاستثمار، يكون اسهل. اما في الحالة اللبنانية، وكما هو الوضع حتى اليوم على الأقل، لا مؤشرات الى ان البلد سيحظى بالمساعدات السخية، سواء بقي الوضع على مستوى الـ»ميني حرب»، كما هو اليوم، او انتقل الى مستوى الحرب الشاملة والمدمرة.
خيار بناء الاقتصاد، وخيار الازدهار ورغد العيش، يبدأ بقرار الانتقال الى مرحلة استقرار دائم. طبعا هناك من يؤمن بأن هذا القرار لا يتعلق باللبنانيين وبما يريدون، بل بما يخططه لهم الآخرون. لكن النتيجة المعروفة لاستمرار الوضع الحالي هي مزيد من الانكماش والفقر والتعتير.