إنّ أكثر ما يُطمئن في بيان إعلان النوايا الذي صدر بعد أيامٍ وليالٍ من النقاش السياسي واللقاءات بين التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية هو الشقّ الاقتصادي الذي رسم الخطوط العريضة للمرحلة الاقتصادية المقبلة والالتزامُ المسيحي باعتماد مفاهيم أساسية والضغط لتحقيقها واعتبارها من المسلّمات.
حدّد البيان الصادر الاتفاق على اعتماد اللّامركزية الإدارية والمالية الموسعة ونقل قسم كبير من صلاحيات الإدارة المركزية والالتزام بأحكام الدستور المتعلقة بالمالية العامة وبأحكام قانون المحاسَبة العمومية التي تحدّد موازنة الدولة وشموليّتها وأصول ومهل إعدادها وتقديمها إلى المجلس النيابي، وكذلك إعداد الحسابات المالية وتدقيقها وتصديقها وفقاً للأصول وكذلك الالتزام بضرورة تحديد سقف للاقتراض لا يمكن تجاوزه إلّا بإجازة جديدة من المجلس النيابي وبضرورة ترشيد الإنفاق والحدّ من الهدر والإنفاق غير المجدي ومحاربة الفساد المستشري وإصدار قانون الإثراء غير المشروع، وإنشاء المحكمة الخاصة بالجرائم المالية.
إنّ هذه الخطوة أساسية ومطلوبة لتفعيل المشارَكة المسيحية الفاعلة في التكوين الاقتصادي للدولة، ووضع أهداف واضحة لتشكّل خطة عمل للمستقبل، فلم يعد خافياً على أحد أنّ السبب الاساس للهجرة لدى الشباب اللبناني هو الشأن الاقتصادي في الدرجة الاولى وبالتالي التأخّر في تطبيق الأهداف الموضوعة من حيث تطبيق اللّامركزية ومعايير الشفافية والحدّ من الفساد، والهدر يُعتبر إطلاق رصاصة رحمة على بقاء الشباب المثقف في لبنان.
وبالتالي نعوّل على البيان المشترَك لاطلاق همّ اقتصادي مسيحي موحَّد يكون هو الاساس، ويتمّ الاتفاق على تطبيقه بغضّ النظر عمّا ستؤول اليه الامور السياسية، والحرص على أن لا تعرقل الامور السياسية الاصلاحات الاقتصادية، فلم يعد الامر يتحمّل أن نغضّ النظر عن تطبيق هذه الاصلاحات المذكورة.
علماً أنّ التجربة في هذا الاطار تظهر أنه إذا وُجدت النية يمكن إصلاح الاخطاء وهو ما تمّت تجريته في ملف الحوض الرابع في مرفأ بيروت، حيث إنّ التعاون المسيحي في هذا الملف أدّى الى تجميده الى حين اعتماد حلّ شفاف ومنطقي ومُستدام.
ومن هذا المنطلق قد تكون بكركي المرجعية الافضل اليوم لاحتضان المسلمات الاقتصادية وتشكيل لجنة تنفيذية للاحزاب المسيحية يتمّ فيها الانطلاق بخطة عمل واضحة المعالم، وبالتالي تفعيل الدور المسيحي في الشأن الاقتصادي وتحويل الخطوط العريضة التي أطلقها البيان امس الى خطوات عملية ومثمرة. وتعود بي الذاكرة الى مقال كنت قد كتبته في جريدة الاخبار في 15/3/2008 تحت عنوان «المجمع البطريركي الماروني والاقتصاد اللبناني» والذي يلقي الضوء على موقف الكنيسة من القضايا الاقتصادية.
وقد يكون من المفيد في هذا الاطار الرجوع الى قراءة نصوص المجمع البطريركي الماروني وتوجّهات الكنيسة المارونية الاقتصادية التي تحدّد خطة العمل والتوجّهات العامة لهذه الكنيسة وبالتحديد النصّ الرقم 21 تحت عنوان «الكنيسة المارونيّة والقضايا الاقتصاديّة» ضمن ملفّ الكنيسة المارونيّة وعالم اليوم.
وتركّز على ضرورة إعادة إحياء القدرات الإنتاجيّة في البلاد، في الميدانين الصناعي والزراعي، ومساعدة اللبنانيّين في توفير قدرةٍ تنافسيّة لمنتوجاتهم، معالجة التعدّيات على الشاطئ البحريّ والشواطئ النهريّة، استخدام الرمول، تبذير المياه وتلوّثها، عدم معالجة النفايات بطريقة جدية. الى ذلك من الضرورة النظر إلى الهجرة على أنّها مكلفة للمجتمع، فمردود الأعباء الماليّة التي أُنفقت لتربية الشباب المهاجر وتعليمه، لم يأتِ لمصلحة لبنان، بل إنّ دولَ الإغتراب هي المستفيدة من هجرة الأدمغة إليها.
قد يبدو الحديث عن دور مسيحي في الاقتصاد، عبارة غير وطنية ولا تنسجم مع مبادئي الشخصية بالحديث عن مصلحة قومية ووطنية، إلّا أنّ الظروف الاستثنائية التي تمرّ بها المنطقة اليوم تستوجب إجراءات غير استثنائية، فيبدو أنّ التهجير المبرمَج للمكوّن المسيحي في المنطقة له أثر سلبي في المسلمين قبل المسيحيين، لأنّ تفريغ المنطقة من مسيحييها اليوم يخدم أهدافاً باتت واضحة، وبالتالي إنّ تفعيل الدور المسيحي على كلّ الاصعدة اليوم يجب أن يكون مطلَباً مسلماً قبل أن يكون مسيحياً.
عدا أنّ المسحيين وبعد الطائف تمّ تهميش دورهم الاقتصادي ولم يكونوا جزءاً اساساً في رسم اقتصاد الدولة، اليوم إنها الفرصة الذهبية لاستعادة هذا الدور، عبر تطبيق الأسس الحقيقية لأيّ مجتمع منتج لا على طريقة توزيع الزفت والخدمات الشخصية، بل على نظامٍ اقتصادي يستوعب ويقدّم الفرص لخرّيجينا من دون منة من احد ومن دون الاستزلام الزحفطوني للزعيم أو النائب، نظام اقتصاد يحرّر شبابنا ولا يكبّلهم ويبقيهم في مناطقهم وقراهم.
فليتحوّل البيان في شقه الاقتصادي الى الخطوة الاولى لتحقيق هذا الحلم، ولنشهد تكاتفاً مسيحياً لتأمين الحقوق فحق شبابنا علينا اليوم أن يتحوّل هذا البيان الى نتائج ملموسة، فالإيجابية التي طبعت هذا التفاهم التقطها الشباب بأملٍ مطلق، وسيكون من غير الجائز قتل هذا الامل في مهده.
وبالطبع ما ندعو اليه اليوم لا يقتصر فقط على التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، نحن ندعو كلّ الاحزاب للانضمام الى حركة التفعيل الاقتصادي واعتبار الاقتصاد اولوية للبقاء على هذه الارض