تمر كل المجتمعات بأزمات كبرى تجعلنا نترحم على مشاكل الماضي القريبة قبل البعيدة. كان هنالك حد أدنى من الرفاهية ينعم بها كل أفراد المجتمع. أما اليوم، فالأوضاع الصحية قبل الاقتصادية والاجتماعية تدعو لليقظة والتنبه والقلق. ليست هنالك دولة لا تتوجع اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وإن يكن بدرجات مختلفة. هل يمكن العودة الى الأوضاع الحياتية السابقة ومتى وما هي الشروط بل الوسائل والتكلفة المطلوبة؟ هل تعود الأمور الى طبيعتها بعد اللقاح وهل نحن متأكدون من سلامة اللقاح خاصة وأن فترة السنتين الضروريتين للتأكد من السلامة لم تحترم لدقة المرحلة؟
في أوروبا، المشكلة الصحية كبيرة وهنالك عجز حقيقي في المواجهة كما هو الحال أيضا في لبنان ذي القدرات المحدودة والقيادات غير المتجانسة والتي تختلف على كل شيء حتى في الصحة. مجرد الاصغاء للاعلام الفرنسي والبريطاني والعربي على سبيل المثال، يجعلنا نقلق من ناحية الضياع في طرق وتوقيت ونتائج المعالجات المتبعة. الحقيقة أن ما يشغل بال الدول هو عدد الأسرَّة المناسبة في المستشفيات وأن لا يكون عدد الاصابات الكورونية أعلى منها كي لا نعود الى المشهدين الايطالي والاسباني. الاقفال ضروري شرط احترام التوازن في الأهداف والمصالح بين الصحة والاقتصاد. كما لا اقتصاد من دون صحة، فلا صحة من دون قدرات اقتصادية كافية.
أما الوضع الكوروني الأميركي فهو أخطر بكثير لأن الادارة الترامبية السابقة رفضت الاعتراف جديا بالكورونا وجميع اللقاءات التي حدثت في البيت الأبيض أو التي نظمها الرئيس ترامب لم تحترم الشروط الكورونية البدائية المعروفة.الاقتصاد تعثر والنمو السلبي كان في حدود 4,3% في 2020. أما زيادة مؤشرات البورصات الأميركية المختلفة، فتؤكد انفصال الاقتصاد المالي عن الحقيقي بل تشير أكثر الى الفجوة الكبيرة في الدخل والثروة ضمن المجتمع.
خسر الرئيس ترامب الانتخابات بسبب الصحة كما بسبب عدم معالجة الفجوة المذكورة التي كبرت المشاكل الاجتماعية. تجمع الغاضبون في الولايات وانتخبوا رئيسا جديدا سيسعى للمعالجة مع فريق معظم أعضائه معروفون بالجدية والكفاءة. لذا هنالك أمل كبير في تحسن الأوضاع الصحية والاقتصادية قريبا خاصة بعد الانضمام من جديد الى مؤتمر باريس للمناخ وبعد الحفاظ على عضوية منظمة الصحة العالمية وغيرها من الاتفاقيات الاجتماعية ذات الطابع السياسي. واقعا يتردى المناخ عالميا علما أن كل المحاولات حتى اليوم تهدف الى تخفيف الانحدار وليس الى تحسين المؤشرات. الوضع المناخي العالمي خطير مع الكورونا وقبلها وهنالك اهمال تجاه التردي المناخي من قبل ملايين الناس وعشرات الحكومات. أسوأ ما يحصل هي الحرائق الخطيرة في العديد من الغابات والحدائق والتي تشير الى ارتفاع مستوى الحرارة عالميا. لا ننسى الفياضنات والهزات الأرضية وغيرها من الشوائب.
طبعا المشاكل الصحية في الدول الناشئة والنامية أكبر وأخطر، والاحصائيات غير جدية في معظم الأحيان بل تغطي قصدا الحقائق. من يستطيع تقييم الكورونا في أكثرية الدول العربية اذ ان الاحصائيات الصحيحة غائبة؟ في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية تشير المعلومات الى تردي الوضع الصحي والى غياب القدرات المادية والتقنية المناسبة. في كل حال وفي جميع المجتمعات يجب أن تسأل القيادات الرسمية نفسها، هل الوضع مقبول وما هي سبل المعالجات وهل المستقبل أفضل للجميع أو أقله لأكثرية السكان؟ المطلوب رؤية واقعية مبنية على الدراسات كي لا تحصل المفاجاءت، وان حصلت لا تكون كارثية.
في لبنان، أخّر انفجار 4 آب كثيرا مسيرة لبنان الضرورية نحو التنمية المستدامة. كيف يستطيع مسؤولو السنوات السبع السابقة أن يناموا ليلا وهم مسببون بشكل مباشر أو غير مباشر لوجع وخسائر ومعنويات وآمال الناس؟ ما يجري من تحقيقات مع عدد من المسؤولين هو جيد لكنه بداية فقط لما يجب أن يحصل. طالما لم يتم التحقيق الجدي مع المسؤولين السياسيين، ندور في حلقة مفرغة خطرة.
ما هي أهداف مجتمعاتنا وهل هي صعبة التحقيق وكيف نصل اليها؟ هنالك عوامل يمكن أن تصلنا الى التنمية المستدامة، منها العمل الجاد مع الحفاظ على نوعية الحياة ونقلها الى أجيال المستقبل. هنالك التقدم التكنولوجي الذي يساعد المجتمعات على الحفاظ على مواردها، فيسمح بانتاج سلع أكثر من نفس الموارد المادية والبشرية. لا يمكن تحقيق النمو الطويل الأمد من دون تكنولوجيا متطورة لا تزيد التلوث.
المطلوب عالميا واقليميا أولا تحقيق الازدهار عبر نسب نمو مرتفعة متواصلة تحسن الأوضاع المعيشية. قال الرئيس أيزنهاور أن الخطط هي عديمة الفائدة، أما التخطيط فهو كل شيء. فالخطط لا تصح في العالم المعقد ولا يمكن السيطرة على النتائج. أما التخطيط المبني على الوعي والذكاء وحسن التفكير، فهو أكثر من ضروري ولا بد من القيام به لمواجهة التحديات. تبقى كل السياسات مبنية على التوقعات التي تدخل في تحديد القرارات. عندما تقررالحكومة زيادة أو تخفيض الضرائب، تبني قراراتها على توقعات للنتائج تكون صحيحة أو خاطئة تبعا للأوضاع. عندما تضع أي دولة أو مؤسسة عقوبات على أشخاص أو شركات، فهي تتوقع تغييرا في التصرف اذ أن العقوبة بحد ذاتها غير مجدية لكن تغيير التصرف مهم جدا.
المطلوب الاجتماع والتضامن الشعبي أي أن المجتمعات المفككة لأسباب مختلفة تفشل. التنوع في المجتمعات مهم شرط أن لا يرتفع كثيرا مستوى الانقسامات الجدية في العقيدة والأهداف والرؤية. في لبنان، الانقسامات كبيرة على الأمور التافهة كما المهمة. المجتمعات الذكية هي التي تستفيد من أزماتها لتتجنب كوارث مستقبلية مماثلة. للأسف القليل من المجتمعات تستفيد من تجاربها المرة، لذا نرى أن المشاكل تتكرر وربما تصبح أكثر خطورة مع الوقت.
أما الحوكمة فمطلوبة عبر قاعدتي المحاسبة والشفافية. قال «فيكتور هوغو» أنه لا يمكن لأحد أن يواجه فكرة حان وقتها، وهذا هو حال الحوكمة. السياسيون في لبنان مثلا يعملون ضمن الفوضى وسوء الاداء، والحوكمة ما زالت ضعيفة. الحوكمة ليست قديمة لكنها أصبحت في بعض الدول قوية وعميقة وتواجه الفاسدين والمستغلين.
أخيراً تحاول العلوم الاقتصادية ايجاد الحلول للمشاكل. هدر الوقت مضر ويعقد الحلول. طبعا العلوم تتطور لمواجهة التغيرات الكبيرة على أرض الواقع. الاعتماد على العلوم الاقتصادية المتطورة دائما يشكل نوعا من الضمانة أو التأمين لتجنب المخاطر وتخفيف التكلفة والخسائر. أهم زاوية في العلوم الاقتصادية هو التحليل على المدى الطويل لأن تنبؤ التغيرات القصيرة الأجل مستحيل ومكلف ولا بد من اعتماد أهداف مبنية على الواقعية والمنطق والاحصائيات