IMLebanon

لا للاقتصاد الموجَّه تحت أي ذريعة

 

 

لا بد من الاشارة الى الأسباب الاساسية التي أدّت الى هذا الانهيار الكبير والسريع والى تراجع حجم الناتج الوطني الى حدود لم تكن مقدرة او محسوبة في العام الاول للأزمة (2020) والى انحسار اكبر متوقّع في العام الثاني (2021). ولغاية اليوم، لم نرَ اي اجراء أو ارداة لوقف هذا التدهور السريع والقاتل للاقتصاد الوطني.

يقوم الاقتصاد اللبناني على التنوع وحرية التجارة وكل القطاعات الاقتصادية الاخرى تقوم على هذا النموذج. لقد اعتمد الاقتصاد بشكل اساسي على القطاع الخاص في مجمل قطاعاته وتنوعها بشكل مستدام الى ما قبل الأزمة. فالقطاع الخاص يعتبر ركيزة اساسية في تمويل الدولة من خلال دفع الضرائب والرسوم والجمرك والقيمة المضافة والعديد من المساهمات الاخرى، اما مساهمة القطاع العام (الدولة) في الاقتصاد فهي تقوم على قطاع الاتصالات والطيران والمرافق العامة وبعض الشركات والمؤسسات العامة الاخرى والتي تعتمد على قوانين تمنحها حصرية في استثمار وادارة هذه القطاعات، وهذا ما يعطيها الأسبقية بسبب عدم وجود منافسة من قبل القطاع الخاص، بما يسمح لها بتأمين مداخيل مضمونة من خلال استثماراتها العامة الى الخزينة (وما يؤول إلى صندوق الخزينة هو ما يتبقّى عنها بعد صرف الجزء الكبير من الاموال في تحسينات وتوسعات وخلاف ذلك من امور…).

 

وبالعودة الى الواقع الاقتصادي والانهيار المؤلم واسبابه المباشرة، وأهمها العجز الثلاثي: العجز الكبير السنوي في موازنة الدولة والذي أرهق الاقتصاد الوطني وقد بلغ ثلث حجم الموزانة في السنوات الاخيرة. والعجز الاصعب والاخطر في ميزان المدفوعات والذي بدأ في العام 2011 وأخذ مسارا تصاعديا سريعا بما أدّى حتماً الى خسارة الودائع الدولارية وذوبانها في تمويل الاستيراد للاستهلاك، وفي تثبيت سعر الصرف وفي تمويل القطاع العام على مدى ثلاثة وعشرين عاما، بما أدّى الى نشوء فجوة كبيرة في الاموال المودعة في مصرف لبنان وفي النظام المصرفي اللبناني.

 

اما العجز في الميزان التجاري، وهو عجز مزمن وتاريخي، فقد كان يعوّض من خلال ميزان المدفوعات عبر عوامل عدة، منها تحويلات دولارية كبيرة من المغتربين اللبنانيين او من الودائع غير المقيمة، ومن بعض الاستثمارت الاجنبية فضلاً عن القروض الدولية ان كانت من دول او من البنك الدولي او من جهات مانحة. اذاً، يقوم الاقتصاد بقسم كبير منه على الاستهلاك والصرف وعلى التحويلات من الخارج، وعلى القطاعات العقارية والتجارية والانتاجية الاخرى، وعلى الفوائد المصرفية الريعية، والقسم الباقي يقوم على اقتراض الدولة من ودائع الناس لتقوم بالصرف على قطاع عام غير منتج ومكلف، وتجب اعادة هيكلته منذ زمن لإعطاء صاحب الكفاءة والخبرة حقه وللاستغناء عمّن ليس لديه الخبرة والمعرفة والخلاص من الاحمال المكلفة للخزينة وللدولة، وبالتالي للمواطن والمكلّف.

 

هنا لا بد من اعادة رسم سياسة اقتصادية ومالية ونقدية تحاكي الواقع الجديد تأخذ في الاعتبار حجم الاقتصاد المنكمش والمتراجع بنسبة تفوق 65 بالمئة، والخسارة في الاقتصاد سوف تنعكس سلباً على مداخيل الدولة، من هنا أصبح من الضروري معالجة العجز في الموازنة والحد من النفقات غير الإستثمارية، وهذا اول مدماك يوضع في طريق الاصلاح والنهوض.

 

إنّ تراجع حجم الاقتصاد الوطني الى ما وصل اليه، أدّى الى افقار المواطنين وإلى تراجع القيَم المالية والعقارية بالنسبة نفسها للتراجع في الاقتصاد، وهي نسبة كبيرة وغير متوقعة.

 

لذلك، فإنّ اعادة النهوض للأسف لا يمكن ان تتم ذاتياً بعد هذا الانهيار الكبير وبعد هذا التضخم المفرط، وبعد ذهاب وتلاشي قيمة الرواتب وبعد وصول العملة الوطنية الى الدرك الأسفل. هنا، لا بد من إعادة الثقة اولاً بالنظام العام والادارة العامة، وبالنظام المالي والمصرفي، وهذا هو الاساس. لا يمكن النهوض الّا بنظام مصرفي موثوق وبمصارف وطنية او مختلطة او أجنبية بالكامل، لأنه لا يمكن الإتّكال على المصارف المحلية بوضعها الحالي، وقد فقدت الأهلية المصرفية المتعارف عليها من خدمات اساسية في التسليف وفتح الاعتمادات المالية والسحوبات النقدية، وفقدت ايضاً الاموال الحقيقية، وباتت عاجزة عن اعطاء الاموال الى اصحابها. لذلك يجب النهوض بالأمس قبل اليوم، ووقف الانهيار وإطلاق عجلة النمو والبدء من جديد في مسار اقتصادي واجتماعي جديد، هذا بعد تحديد الخسائر وتوزيعها بعدالة. كما أنّنا بحاجة الى مصارف فعالة وقادرة تمتلك اموالاً بالعملة الصعبة حيث يمكن استعمالها في اعادة النهوض للقطاع الاقتصادي من خلال تمويل مشاريعه وفي البنى التحتية الاساسية والانتاجية كافة، وخلق منافسة حقيقية في النظام المالي والمصرفي والاقتصادي تقوم على الاستثمار الحقيقي المنتج. فالاقتصاد اليوم بواقعه الصعب بحاجة الى تحفيزات خلّاقة وافكار جديدة تدعم اقتصاد المعرفة والصناعات ذات القيمة المضافة من التجارة الالكترونية والتعليم عن بعد والاستثمار في العالم الرقمي والحد من الهدر في الاستيراد للسلع الممكن صناعتها محلياً.

 

في الختام، لا يجوز تحميل القطاع الخاص والاقتصاد الحرّ أسباب الانهيار والأزمات المتعددة التي ضربت لبنان بل إنّ هذا الانهيار قد أصاب أولاً القطاع الخاص في الصّميم، وأدّى الى اقفال الكثير من الشركات والمؤسسات المعمرة والجديدة، والى خسارة الوظائف بما أسفر حكماً عن فقدان الاستقرار الاجتماعي للكثير من المواطنين. وهنا نعتقد انه لا يجوز تحت اي ذريعة مالية او اقتصادية تغيير شكل الاقتصاد الحر والذهاب الى اقتصاد موجّه، ووضع عراقيل في محاولة لإدخال تشريعات جديدة تضرب الاقتصاد اللبناني وتعدمه من خلال افكار تنافسية ظاهرها جيد وباطنها تكمن فيه السيطرة الكلية على الاقتصاد. نحن مع المنافسة الفعّالة ولا سبيل لخفض الاسعار والمحافظة على الجودة الّا بالمنافسة ولكن ضمن معايير واضحة تنطبق على واقعنا، وألّا تكون هذه الافكار المُراد تشريعها مستوردة من دول اخرى تختلف فيها الامور كلياً عن واقع حالنا الاقتصادي والاجتماعي، ولا يمكن إسقاطها على اقتصادنا، مع العلم ان الاقتصاد اللبناني في حاجة الى تحديث قوانينه ليتماشى مع التطور الطبيعي وعصر الانترنت والعالم الرقمي من هنا، لا يجوز إعطاء صلاحيات مطلقة لهيئات هجينة قد تستحدث لإدارة الاقتصاد الوطني اثبتت التجارب السابقة في عدة أمكنة فشلها. المشكلة ليست في شكل الاقتصاد إنما في ما سبق وذكرنا، وفي غياب الحوكمة وفي الهدر والفساد وعدم الكفاءة وقلة الانتاجية… وللحديث تتّمة.