IMLebanon

الثقافة بين التمويل والفوائد

 

 

بين الكورونا وانشغالات الناس المعيشية المختلفة بالاضافة الى الأوضاع السياسية والادارية المتشنجة في المنطقة عموما والعالم، التكلم عن الثقافة يصبح غريبا. لكن الثقافة تفوق في أهميتها ما يجري اليوم على الأرض، بالاضافة الى أن التشويه الثقافي الحاصل عالميا وخاصة في منطقتنا كبير ويتطلب اصلاحه وترميمه الكثير من الوقت. يجب ترميم النفوس أولا التعبة والمعقدة في بعضها قبل أن تعود المنطقة الى أوضاعها العادية التي أصلا ليست جيدة. اهمال الثقافة وحاجاتها مضر ويؤثر على المجتمعات على المدى الطويل وبالتالي لا يمكن انتظار استتباب الأوضاع السياسية حتى نعود للتفكير بالثقافة وفروعها وحاجاتها المختلفة. التحضير للنمو الثقافي يتطلب النضج والوقت، ولا بد من التفكير به حتى في أصعب الظروف.

 

الثقافة تحدد هوية المجتمعات. هنالك التعليم والجامعات تحديدا، وهنالك الفنون بكافة أشكالها. الفارق كبير بين الجامعات التي تمول عموما عبر الأقساط والبحوث، والفنون التي يصعب تمويلها عبر بطاقات الدخول وتحتاج الى الدعم المالي المباشر. هنالك أهمية كبرى لكيفية وتوقيت تمويل أي نشاط ثقافي. مصادر التمويل تغيرت مع الوقت تبعا للأوضاع وتطور العلوم المالية والاقتصادية وأصبحت أكثر تنوعا. هنالك التمويل الذي تعطيه وزارات المالية مباشرة الى الجامعات أو المتاحف أو المؤسسات العامة. هنالك التمويل المشترك بين وزارة المال وشركات خاصة وهذا يتزايد هذه الأيام. أحيانا يقوم متبرع لجامعة بخلق صندوق مشترك، أي تضع الجامعة مبلغا موازيا للتبرع لتمويل نشاطات أكاديمية أو منحا للطلاب أو للجهاز التعليمي. هنالك تبرعات مباشرة من القطاع الخاص، والمرافق الثقافية بحاجة الى هذا النوع من التمويل الذي يترافق مع تمن او حتى ضغط لرفع الانتاجية.

 

دور أي حكومة أو سلطات عامة محلية هو توعية المواطنين على الثقافة أي على الهوية الوطنية للمجتمع.  الثقافة هي الغنى الأساسي والدائم والمنتقل عبر الأجيال.  هذه الثروة مهمة وتفوق الأمور المادية المباشرة. لن تستمر النشاطات الثقافية من تلقاء نفسها اذ المطلوب خلق الطلب الشعبي لها وللفنون تحديدا. نرى أن الثقافة والفنون في الدول الفقيرة تهمل لغياب الوعي أولا والتمويل ثانيا. الشعوب في تلك الدول تهتم بحاجاتها الأولية من غذاء وملبس وصحة وتترك الحاجات الأخرى للمستقبل. هذا مفهوم شرط أن لا تهدر الثروة الثقافية أو تسرق أو تدمر كما حصل في فترات سابقة مع دول الاستعمار التي عززت متاحفها بالتحف. بالرغم من أن الدول النامية أصبحت أوعى اليوم لثرواتها، الا أن الاهمال يبقى موجودا والرغبة في سلب ثرواتها موجودة أيضا.

 

لن تستمر الفنون من تلقاء نفسها، فالتمويل صعب ونادر لكنه ضروري. منذ أزمة 2008، هنالك صعوبة في تأمين التمويل الثقافي بشكل عام ومستمر وتمويل الفنون خاصة. التمويل يذهب عموما الى الحاجات التي تعطي عائدا ماليا واضحا ومباشرا. أما عائد الثقافة والفنون فهو اقتصادي اجتماعي وبالتالي من الصعوبة تقييمه. المتبرعون أصبحوا هذه الأيام متطلبين أكثر وبالتالي يرغبون في الرقابة والاشراف. من ناحية أخرى لا بد من تأمين التمويل الكافي من مصادر مهتمة محلية أو دولية، وهنالك صعوبة في تحديد هوية هذه المصادر التي تواجه بدورها طلبات ربما تفوق امكاناتها. لا بد من القول إن التمويل لا يتوافر لكل نشاط ثقافي أو نشاط فن، ولا بد من التركيز على نوعية الانتاج الجاذب للمال. هذا مهم في ظروف لا تتوافر الأموال فيها بسهولة مع الركود والكورونا، وهنالك منافسة قوية بين الجهات الطالبة للحصول بسرعة على التمويل.

 

مجموع بيع بطاقات ومنتجات النشاطات الثقافية لا يكفي لاستمرارية هذه المؤسسات ولا بد من الدعم العام أو الخاص. التمويل الأميركي للفنون مختلف عن الأوروبي. في أميركا تمول الثقافة عبر بطاقات الدخول والاعلانات وغيرها بنسبة 44% مقارنة بـ16% في أوروبا.  الأفراد المتبرعون يمولون 31% من النشاطات في أميركا مقابل 2% في أوروبا. التمويل الآتي من الحكومات أعلى بكثير في أوروبا أي 46% مقابل 13% في الولايات المتحدة. اختلاف التمويل يعود الى الأهداف والامكانيات والوعي الشعبي لأهمية الفنون والثقافة.

 

المصادر العامة لتمويل الثقافة والفنون لا تكفي خاصة في زمن مواجهة الكورونا. أكثرية الدول تعطي الثقافة حصة صغيرة لأنها لا تجذب الأصوات في الانتخابات وليس لها عائد واضح للناخب. الانفاق على الفنون من متاحف ومعارض وموسيقى خاصة كلاسيكية يهم الطبقات الوسطى والميسورة عموما. الانفاق على الكورونا والتعليم يجذب الأصوات أكثر في الانتخابات. المصادر الخاصة هي من قطاع الأعمال، اذ أن الشركات والمصارف تهتم اليوم أكثر بدعم الثقافة والفن. جزء من الاهتمام يدخل في سياسات التسويق وهذا مقبول طالما أن الفائدة على المجتمع كبيرة. تقوم الشركات بالاهتمام بالحاجات الاجتماعية العامة كالبنية التحتية وتجميل الطرق والمباني وغيرها.

 

ثروات الصناديق الخاصة كبيرة اذ تجمعها عائلات نجحت في الأعمال وتريد المساهمة في المجتمعات عبر تمويل وتطوير الثروة الثقافية. تدير هذه الصناديق لجانا متخصصة حفاظا على استمرارية الأموال الخيرية. من أهم المؤسسات الثقافية المتاحف التي تحتاج الى التمويل الدوري للاستمرارية. للمتاحف 3 حاجات أساسية تحتاج الى التمويل وهي التكلفة التشغيلية العادية، شراء التحف واللوحات الجديدة وثالثا تشييد أو توسيع المباني التي تضع فيها هذه التحف.

 

أما عربيا فهنالك اليوم وعي كبير لأهمية المتاحف في مجتمعاتنا. ما تنفقه دول الخليج عموما على هذه النشاطات ذات النوعية العالية سخي ويساهم في تنشيط السياحة وتنويع الاقتصادات. المتاحف الخليجية الجديدة تحوذ على اعجاب العالم أجمع. هنالك متاحف أخرى مهمة في الأردن ولبنان ومصر وغيرها تمول من القطاع الخاص. ارتفاع أسعار اللوحات الفنية والمنحوتات والموجودات والأصول يصب في نفس الوقت لصالح المتاحف وضدها. تستفيد لزيادة قدرتها الاقتراضية من المصارف أو الأسواق مباشرة. تتأثر سلبا اذ يصعب عندها الشراء حيث يمكن أن يصل سعر القطعة الفنية الواحدة الى عشرات ملايين الدولارات. هنالك دور كبير تلعبه شركات المزايدات العالمية في تحديد الأسعار عبر لقاءات تقنية متخصصة.

 

لا بد من ذكر العامل الذي اخترعه الاقتصادي «ويليام بومول» الذي يميز القطاع الفني عن التجاري حيث ليس هنالك رابط في رأيه بين الأجور والانتاجية في الفن كما في التجارة. تحسين وضع الموسيقيين والرسامين مثلا لا يؤدي الى رفع انتاجية عملهم كما يحصل في الشركات التجارية. هذا لا يعني أن تحسين أوضاع الفنانين غير مهم، بل على العكس لكن الانعكاس على الانتاجية غير واضح.