Site icon IMLebanon

“رفّة جفن”!

 

 

ثمة من لا “يرفّ لهم جفن” في هذه البلاد. لا يعنيهم ماذا يحصل في الشارع. يتغاضون عن طوابير المواطنين الطويلة أمام محطات البنزين، ولا يشعرون بغلاء الأسعار الفاحش والتضخم غير المسبوق والتدهور اليومي للعملة الوطنيّة. ثمّة من يعيش في بلد آخر، في مكان آخر، لا يشبه المعاناة الهائلة التي يمّر بها الشعب اللبناني منذ الاستقلال وحتى اليوم.

 

لطالما كان الاعتراض التاريخي على طبيعة النظام الاقتصادي اللبناني لناحية ليبراليته المتوحشة في بعض المجالات وغياب العدالة الاجتماعيّة والتنمية المتوازنة بين المناطق لا سيّما بسبب الإنعدام شبه التام للدورة الاقتصاديّة في الأرياف والأطراف، وإنكفاء الدولة عن ممارسة وظيفتها الاجتماعيّة إلا بحدودها الدنيا، والاعوجاج الكبير في السياسات الضرائبيّة التي لا تميّز بين أصحاب الثروات وذوي الدخل المحدود والفقراء، فضلاً عن الانحياز الأعمى لقطاعات المصارف والخدمات والسياحة والابتعاد المقصود عن توفير مقومات نجاح للقطاعات التقليديّة كالزراعة والصناعة…

 

وتطول اللائحة لتطال الاحتكارات والوكالات الحصريّة وغياب الضرائب على الثروات وأرباح المصارف (التي وصلت في سنواتٍ معيّنة لتحقيق أرباح خياليّة في حجمها وأرقامها) وقيام الكارتيلات الكبرى في العديد من القطاعات الحيويّة وسوى ذلك الكثير من المشاكل التي تراكمت مع تراجع أداء الادارة العامة وتقاعس الهيئات الرقابيّة عن إتمام مهامها وتعثر القضاء في مواكبتها أو مواكبة أي حركة إصلاحيّة، مهما كانت محدودة، عبر مقاضاة المخالفين والفاسدين والمتورطين فاشتهرت مقولة أن ليس هناك من ملف يصل إلى خواتيمه القضائيّة بفعل التدخلات السياسيّة.

 

وساهم كل ذلك، بالتوازي مع إنعدام التوازن في الماليّة العامة لا سيّما لناحية إرتفاع النفقات بما يفوق بأضعاف المداخيل، في الوصول إلى حالة من الاختلال البنيوي في أداء الدولة وتعثرها عن القيام بواجباتها. وفاقم ذلك الأداء السيئ الذي شهدته إدارة قطاعات محوريّة في البلاد وفي مقدمها قطاع الكهرباء والطاقة الذي كبّد الخزينة خسائر تفوق 45 مليار دولار والكهرباء ليست متوفرة.

 

أما بقيّة الرواية الاقتصاديّة اللبنانيّة وقصة الانهيار الدراماتيكي فأصبحت معروفة التفاصيل من قبل المواطنين تماماً كما هي مفهومة من قبل الخبراء وأصحاب الاختصاص. وللمناسبة، فإن فصول هذه الرواية لم تُكتب كلها بعد. والأهم، أن الخاتمة السعيدة المنتظرة لا تبدو قريبة بسبب أولئك أنفسهم الذين لا “يرف لهم جفن”.

 

ولكن، مع كل ما ذُكر سابقاً، كان ثمّة إقتصاد في البلد. صحيحٌ أن أغلب مقوّمات نجاحه الظرفي والموسمي والمحدود كانت مصطنعة وغير حقيقيّة (وهي من الأسباب التي أدّت وتؤدّي إلى الانفجار الحالي)؛ ولكن كانت هناك جهود لتغيير الوضع القائم أو دفعه نحو الأفضل. لقد حالت الخلافات السياسيّة العميقة بصورة مستمرة دون تحقيق الخرق الاقتصادي المطلوب، ولكن كان هناك أقله “من يرف له جفن” في مكان ما ولحظة ما.

 

لو أتيح توفير هامش إقتصادي يمكن من خلاله النفاذ لتحقيق بعض الخطوات الضروريّة والمركزيّة بعيداً عن التجاذبات السياسيّة من خلال مقاربة علميّة وتقنيّة للملفات الإقتصاديّة، لربما كان بالامكان الدفع نحو تطوير البنى الاقتصاديّة، وتالياً، الاجتماعيّة في البلاد. لكن، للأسف، لقد تحكمت المصالح الفئويّة الخاصة بكل مفاصل الدولة وحالت دون تطبيق التغيير المنشود على كل الأصعدة، وهو ما أوصل الوضع الراهن إلى هذا المستوى من الانهيار.

 

المهم اليوم، المطلوب البحث عن مسؤولين من أولئك الذين “يرف لهم جفن”، يلتزمون قضايا الناس بالدرجة الأولى، من دون حسابات سياسيّة. فالأزمة الراهنة أزمة وطنيّة وتتطلب حلولاً وطنيّة. العمل على المستوى الوطني يسمو فوق الزواريب ويتطلب ترفعاً وتحسساً بالمسؤوليّة وأكثر من “رفّة جفن”!