خلافاً لما يعتقده كثيرون ليست إشكالية لبنان في غياب الرؤيا لدوره الاقتصادي، بل في عدم تجانس خياره الاقتصادي مع وضعه العام لناحية الاستقرار السياسي-الاقتصادي-الاجتماعي الشامل، او بمعنى آخر تعويله على الاستثمار في ما يعرف بـ»إقتصاد السلام» المبني على السياحة والتجارة والخدمات المالية والترفيهية والاحتفالية في حين أنه في صلب تحديات اللاإستقرار على جميع المستويات المحلية والاقليمية والتجاذبات الدولية على أرضه! إنما إعادة النظر بهيكلية الاقتصاد والخيار الاستراتيجي للدور الاقتصادي للبلد لا تكون بردود الفعل التكتيكية على شكل مبادرات صناعية من هنا وتشجيع زراعي من هناك، طالما أنّ هذه الخطوات لم تندرج في استراتيجية متكاملة جديدة مبنية على دراسة حاجة وجدول فوائد/تكاليف وروزنامة زمنية للتحضير لها، والانتقال في حال اتخاذ القرار بالتغيير ومع الأخذ بعين الاعتبار مستقبل الألوف ممّن راهنوا على الاستثمار في الخدمات على اعتبار أنها القطاعات المطلوبة في السوق! فما هي تحديات مستقبل «اقتصاد السلام» في لبنان؟ وهل الموضوع طرح سابقاً؟ وأيّ خطوات ضرورية لتهيئة الأسواق والمواطنين لهذا التغيير؟
قبل الصحوة الفجائية على وجود قطاعات صناعية وزراعية في لبنان من الضروري إعطاءها الحوافز الملحّة لتأمين حد أدنى من الانتاج المحلي وما يعرف بـ”الأمن الغذائي”، لا بد من التذكير بمحطات عديدة كانت تتطلّب التقاط الفرَص لتأمين التوازن بين القطاعات الاقتصادية اللبنانية وعدم حصر التركيز على مكوّنات “إقتصاد السلام” المتمثّلة بالسياحة والتجارة والخدمات على اختلافها، خاصة أنّ لبنان لطالما كان ولا يزال محط تجاذبات داخلية وخارجية وافتقاد الاستقرار المطلوب لمثل هذا القطاعات… فالرأسمال في الخدمات سريع الهروب وهذا أمر محسوم اقتصادياً من دون أن يعني ذلك بالضرورة إعادة نظر كلية بدور لبنان الاقتصادي وإغفال ميزاته التفاضلية التي تؤهله للربح السريع من الخدمات.
فالمقصود تحديداً هو أنّ السياحة والتجارة والخدمات المالية وما شابه، التي مثّلت عصب الاقتصاد اللبناني والأكثر مساهمة بالناتج المحلي، لا يمكن تحفيزها بمجرّد تأمين تسليفات بفوائد مخفّضة أو إجراءات مرحلية لتخفيض تكاليف المؤسسات ومستحقاتها، بل إنها تتطلب قبل كل شيء مناخاً استثمارياً مؤاتياً ومقبولية لدى الجهات المستهدفة يعني السوّاح القادرين على الانفاق السياحي في البلاد والمستثمرين المحليين والأجانب المقتنعين بإمكانية تحقيق مردود من استثماراتهم في لبنان وبأقل مخاطرة ممكنة! وهذا ليست المرة الأولى التي يطرح فيها السؤال حول إمكانية صمود هذه القطاعات “المرهفة” إزاء اشتداد الأزمات، إنما تبقى العبرة باستخلاص النتائج والبناء عليها وتحضير الأرضية المناسبة للانتقال السَلس نحو تنويع مساهمات القطاعات السياحية والزراعية والصناعية والتجارية والمالية والعقارية وغيرها في الناتج المحلي، وفي خلق فرص العمل وفي ترسيخ الثقة لتمويلها وللاستثمار فيها ودراستها والعمل فيها ضمن سلسلة متكاملة…
موضوع إعادة النظر بدور وهيكلية ومرتكزات الاقتصاد اللبناني طرحت في محطات عديدة، لا سيما منها بعد “تصفير” الرسوم الجمركية في المرحلة الأخيرة من تطبيق الإتفاقية المتعددة الأطراف “التيسيير العربي” المعروفة بالـ”غافتا” عام 2005، وعلى وقع خروج القوى العسكرية السورية من لبنان التي استنهضت مختلف القطاعات الانتاجية للمطالبة بإعادة النظر في الاتفاقيات الموقعة بين البلدين، وليس فقط من باب النصوص إنما أيضاً من باب حسن التطبيق وآليّات المعاملة بالمثل وآليات فض النزاعات وضبط المخالفات في حال حدوثها حتى لا يبقى الاتّكال على التراضي، خاصة أنّ معظم القطاعات الخاصة كانت تشكو عدم دعوتها وعدم مشاركتها في مفاوضات هذه الاتفاقات وتُناشد إعادة النظر فيها…
الانجاز اللبناني الذي تحقّق حينها تمثّل بتعديل عدد كبير من البنود المتعلقة بالاتفاقات الموقعة مع البلدان العربية وسبل تطبيقها، سواء الاتفاق المتعدد الاطراف لـ”التيسير العربي” او الاتفاقات الثنائية، ولا سيما مع إقرار الروزنامة الزراعية للبنان ورفع الاستثناءات التي كانت لا تزال تتمسّك بها بعض البلدان العربية في مسيرة تحرير التبادل التجاري او إزالة الرسوم ذات الأثر المماثل للرسوم الجمركية وإلغاء العراقيل غير الجمركية فنية كانت او تقنية. هذا الانجاز ما هو سوى تتويج لجهود كثيرة بُذلت خلال فترة طويلة إعداداً وتحضيراً وتنظيماً وتقديماً للنتائج منذ إطلاق سلسلة ورش العمل بين “مركز دراسة النزاعات وسبل حلها – قدموس”، بمشاركة ممثلي القطاع الخاص اللبناني لرصد الشكاوى والمشاكل المتعلقة بهذه الاتفاقات، وبلورة اقتراحات حلول لتصحيحها وتفعيلها، مروراً بالمؤتمر الصحافي للاعلان رسمياً عن “ورقة القطاع الخاص اللبناني الخاصة بالاتفاقات مع البلدان العربية”، ومن ثم تقديم الورقة قُبَيل انعقاد مؤتمر باريس-3 لرئيس الحكومة حينها والوزارات المعنية، وصولاً الى الجهود لتبنّي اكبر مقدار ممكن منها من الدولة اللبنانية.
وبدأت النتائج تتبلور من خلال سلسلة من النشاطات المرتقبة لتسليط الضوء على هذه النتائج ووضع الأطر المناسبة لتنفيذها بأفضل وسائل، بما يضمن حسن الاستفادة منها، علماً انّ دور مراكز دراسة النزاعات هو اعادة صياغة الرابط الاجتماعي. والرابط الاجتماعي لا يكون فقط باستنساخ وقوع النزاع والسعي الى حلّه، ولكن احياناً باستباق وقوع المشكل او النزاع والسعي الى العمل على تفاديه.
كذلك شكّلت حرب تموز-آب 2006 والحصار الذي فرض حينها على لبنان وتوقّف حركة المطار والمرافئ في لبنان، صحوة ثانية على أهمية تحقيق حد أدنى من “الأمن الغذائي”، لكنّ المبادرات في هذا الإطار بقيت محدودة.
ومن ابرز المطالب التي أقرّها المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي الموافقة بصفة استثنائية على الروزنامة الزراعية اللبنانية وفق الصيغة المرفقة للعام 2007، على أن تجدّد عند الطلب بموافقة المجلس، ودعوة الدول العربية التي لم تواف الامانة العامة بالاجراءات التي اتخذتها لتنفيذ قرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي الخاص بدعم لبنان الى الاستجابة. ولكن في التطبيق بقي المزارعون يشكون حتى اليوم من العقبات التي تمنع حسن التطبيق، مثل: الشروط والمواصفات الفنية لاستيراد الفاكهة والخضار، وغياب المراقبة الجوية على الحدود، وغياب تطبيق الشروط والمواصفات في الاستيراد لأسباب عدة، أهمها: عدم إمكان الكشف على بعض المعابر لعدم وجود اماكن لتوقف الشاحنات لإجراء هذا الكشف، او للنقص في عدد موظفي الحجر الصحي الزراعي المسؤول عن تطبيق شروط استيراد الخضار والفاكهة ومواصفاته، مما يؤدي الى عدم إمكان الكشف الفعلي على المستوردات والتأكد من محتويات الشاحنات ومطابقة السلع المستوردة لِما يأتي في الفواتير… طبعاً ما عدا التهريب الذي لا يزال موضوع الساعة…
فضلاً عن الاسراع في اصدار المراسيم التطبيقية لقانون حماية الانتاج الوطني (مكافحة الإغراق)، وتطبيق هذا القانون على الاستيراد لوقف الإغراق، ووضع رسوم تكافؤية للسلع التي تحظى بدعم في دول إنتاجها.
كذلك في الصناعة، إذا كان مجموع الانتاج يوازي 10 مليارات دولار ومنها فقط ما يوازي 3 مليارات دولار قابل للتصدير، يعني أنّ حوالى 7 مليارات موجّهة للسوق المحلي، إلّا انّ حاجة الانتاج لمواد أولية ومدخلات بحدود 3 مليارات دولار تشكّل عائقاً كبيراً اليوم للصناعة اللبنانية، خاصة أنّ الأزمة تصبح أشد على المصانع الصغيرة التي لا تصدّر لتحصل على الدولار بل تنتج فقط للسوق المحلي ولكنها تحتاج للدولار لاستيراد مدخلاتها، واذا عكست كلفته على أسعار موادها يصعب على المستهلك اللبناني تفهّم ارتفاع أسعارها كمنتجات محلية وتضعف بالتالي قدرتها التنافسية للمنتجات النهائية المستوردة التي يُسَدد أساساً التاجر سعرها بالدولار… فشكّلت الأزمة الاقتصادية اليوم، ولا سيما منها شح الدولار، صحوة ثالثة على أمل أن تكون ثابتة لإعادة النظر بتوزّع الاهتمام بشكل متوازن بين القطاعات…
ولكن مثلما سبق وذكرنا من الضروري مواكبة الألوف من المستثمرين والعاملين في القطاعات الخدماتية من مكاتب سياحية وفنادق ومطاعم ومتاجر ومؤسسات خدماتية على أنواعها للتأقلم مع المتطلّبات الجديدة للسوق والرؤيا الاقتصادية الملائمة أكثر لوضع من مختلف النواحي…
فتماشياً مع ضرورة تأمين مصرف لبنان التمويل اللازم لاستيراد المواد الأولية الصناعية، بالدولار الأميركي، الذي ارتفعت أسعاره في السوق بعد شحّ وجوده، أصدر حاكم مصرف لبنان تعميمين (556 -557)، يتعلقان بتعديل القرار الأساسي رقم 6116، الصادر بتاريخ 7-3-1996.
ويسمح القرار للمصارف العاملة في لبنان “الطلب من مصرف لبنان تأمين نسبة 90 % من قيمة المواد الأولية المستوردة بالعملات الاجنبية، تلبية لحاجات المؤسسات الصناعية المرخصة وفقاً للأصول بحد إجمالي مقداره 100 مليون دولار اميركي، أو ما يوازيه بالعملات الاجنبية الاخرى، شرط أن لا يستفيد العميل من أحكام هذه المادة في أي عملية استيراد إلا لغاية مبلغ حده الأقصى ثلاثماية ألف دولار اميركي، أو ما يعادله بالعملات الأجنبية”. وبحسب القرار “على المؤسسات الصناعية المستفيدة من أحكام هذه المادة، والتي تقوم بالتصدير، أن تحوّل إلى لبنان نسبة من العملات الأجنبية الناتجة عن عمليات التصدير توازي، على الأقل، قيمة المواد الاولية المستوردة المستعملة في تصنيع المنتجات، التي تقوم بتصديرها”.
صحيح أنّ جهوداً كثيرة بذلت لدعم القطاعات الانتاجية وتخفيض متوسط الفوائد على التسليفات بالليرة اللبنانية الى 9.29 % ومتوسط الفوائد على التسليفات بالدولار الى 7.79 % وتأجيل مستحقات مؤسسات صناعية وتجارية وسياحية خدماتية مختلفة مع تأمين دعم بالدولار من مصرف لبنان، إلّا أنّ إمكانيات المصرف المركزي محدودة ولا يمكن استنزافها، كما أنّ الدعم يبقى مرحلياً، والمطلوب أن تستعيد القطاعات إمكانية التأقلم والاستمرار مع الظروف المستجدة… فهل المطلوب فعلاً الانتقال من “اقتصاد السلام الى اقتصاد الصمود”؟ وهل هذه المرة يتمّ إشراك القطاع الخاص في وضع خارطة الطريق المناسبة لذلك؟