دقّت ساعة النزول عن الأشجار العالية التي صعد اليها كثيرون خلال المعركة الانتخابية. وعلى من يكابر ويستمر في الصعود بعد انتهاء الانتخابات ان يتعلم من المثل الشهير القائل: كلما صعد القرد الى أعلى انكشفت مؤخرته أكثر. والمهمة الملحّة حاليا هي تأمين السلالم للنزول. فلا مهرب من العودة الى الواقع بعد نشوة الانتصارات التي قال كل طرف انه حققها. ولا واقعية في العودة الى الواقع من دون رؤيته كما هو وتقديم خطة عملية لتطويره وتحسين شروط الحياة فيه. فما رافق نشوة الانتخابات هو صدمة الاقتراع. وما يتخطى النشوة والصدمة هو تراكم التحديات الداخلية وتصاعد المخاطر الخارجية بكثير من التداخل بما يفرض علينا أعلى مستوى من التبصّر والحكمة والتضامن لمواجهة التحديات والمخاطر.
ومن الطبيعي ان تكون المسارح والفضاءات مفتوحة في الأيام الأولى للنشوة واحتفالات النصر. لكن من غير الطبيعي اعطاء أقلّ قدر من الاهتمام والمراجعة حتى في الكواليس للصدمة التي أحدثها الانكشاف الملموس لعمق الهوّة الفاصلة بين التركيبة السياسية وبين الناخبين الذين أضيف اليهم ثمانمئة ألف ناخب جديد منذ انتخابات العام ٢٠٠٩ والتمديد ثلاث مرات للمجلس الحالي. ومن المخيف ان تبدو استعداداتنا لمواجهة التحديات والمخاطر محدودة أو في آخر سلّم الاهتمامات، وان يكون بعضها من النوع الذي يزيد المخاطر والمخاوف على مصير لبنان.
ذلك ان الصدمة ليست خفيفة عندما يمتنع نصف الناخبين عن ممارسة حق الاقتراع برغم اللعب المكشوف بالعصبيات الطائفية والمذهبية وتقديم الوعود بجعل لبنان جنّة خالية من الفساد والصفقات والمحاصصة. وليست سطحية حين تكون ردا على سلطة أكلت الدولة ومارست على مدى ثلث قرن سياسات دفعت نصف اللبنانيين الى العيش عند خط الفقر وتحته وأنتجت تركيبة يعيش معظمها تحت خط الفقر السياسي. ومن باب الخبرة قال الجنرال ديغول ان السياسيين لا يصدّقون كلامهم ولذلك يندهشون حين تصدّقه الناس. لكن ما جعل السياسيين في لبنان يندهشون هذه المرة هو ان الناس لم تصدّقهم.
والكل يعترف بوجود خلافات على مسائل استراتيجية، لا فقط بين الخصوم بل أيضا بين الحلفاء. والترجمة البسيطة لذلك هي الخلاف على المخاطر التي تهدّد لبنان والتحديات أمامه. والحلّ الموقت المطروح هو الحديث عن ربط نزاع في المسائل الاستراتيجية لتسيير السلطة وتيسير الأمور البلدية. لكن لبنان ليس خارج المسرح الذي يدور فوقه صدام المشاريع في أكبر صراع جيوسياسي في المنطقة وعليها.
ولا شيء في هذه الحال يضمن الرهان على وضع مسائل استراتيجية بين قوسين.