Site icon IMLebanon

عَورات الثورة.. أمام عَورات النظام!

 

 

 

لن تسمعوا تصريحاً أميركياً أو أوروبياً، ولا عربياً طبعاً، يعلّق أو ينتقد من قريب أو بعيد، خطةَ «التربية والتعليم» التي تقدّمت بها الحكومة الموقّتة في سوريا الجديدة بما فيها من الاعتداء على تاريخ البشر الطويل ورجاله ونسائه وجواهرهم الفكرية، وعلى الزمن وتحوّلاته وتقدّمه، وعلى «الصناعة» البشرية والثقافية، وعلى عالَم اليوم أولاً وأخيراً، ليس لأنهم لا يرغبون في التدخّل في الشؤون الداخلية لبلد آخَر، بل لأنهم موافقون ومشجّعون للخطة، ويمكن القول أنّ هذا النموذج من التفكير الرّجعي الانهزامي القَوقَعيّ هو المُتَمَنَّى عندهم لتبقى الشعوب العربية ساكنةً ومُخَدّرةً في حقَب دمويّة ماضويّة لا تشبه الإسلام الرسالي في شيء، وفيها جميع أنواع العَمى عن مفاعيل الزمن وتطوّراته وحضارات شعوبه، بما يجعل «المجتمع» كمن يعيش في كهف لا يرى أحداً، ولا يراه أحد، ويصوّره غير قادر على الاختلاط بالآخرين إلّا بمَن يشبهه في نسخته «الجديدة» ولن يشبهه أحد إلّا مجتمع طالبان.. وعلى المؤمنين السلام!

أما عن موقف إسرائيل، فحدّث ولا حرج. إن مجرّد الاستماع إلى إيدي كوهين وأفيخاي أدرعي من نماذج الحاضر الخبيث (حتى لا أذهب أبعد وأعمق وأدقّ) يكفي للانتباه بأن أقصى آمالهم المعلنة، كما آمال سابقيهم من يهود الصهيونية هو اشتباك ديني سنّي – شيعي، ومسيحي – مسلم ودرزي – سنّي إلخ.. في الشرق الأوسط الجديد (وهذا ما يجري حالياً بلا أضواء). ولا يخجلون من تسمية إيران والسعودية كبلدين «ينبغي» أن يشتبكا على هذه «القاعدة»، وتسمية لبنان كبلد متعدّد يسهل إحداث الفتن فيه، وكذلك سوريا «المهيّأة» للانقسام المذهبي والعرقي والديني، وأعينهُم على مصر بين المسلمين والأقباط. كل أصحاب الفكر اليهودي الصهيوني يُجمِعون على أن لا وجود حقيقياً وآمناً لإسرائيل إلّا بالدويلات الطائفية حولها، فتسيطر هي عليهم جميعاً بالقوة، وبالفتَن، وبتأليب بعضهم ضد بعضهم الآخَر.

 

خطة «التربية والتعليم» الجديدة في سوريا هي مزيج من كل هذا الكلام. هي اختفاء خلف السنّة النبوية، والقفز إلى سلوكيات الدولة الأموية، وإحياء الخلافات المذهبية على أقرب صورة مطابقة لمواصفات عقل تلك المرحلة الانقلابية على العقل المحمّدي، واعتبار الألف وثلاثمائة سنة كأنها لم تمرّ، لا في الإنجازات ولا في الفكر، ولا في مقولات الوحدة الإسلامية. هذا عدَا الاعتداء على الذاكرة، وعلى تاريخ القامات البشرية الثاقبة التي مرّت على أرضنا، وفي كتُبنا وفي مدارسنا وجامعاتنا وأقدسُها أبطال الاستقلال ومواجهة الانتداب والاستعمار، ومبدأ الدفاع عن الحرية والوطنية في كل بلد، وسوريا منها.. ومفاعيل تلك الخطة بدأت بالتغلغل في المجتمع، وبدأت معها صيحات الاستنكار والاستهجان وعلامات التعجب والأسف والمرارة ترتسم على الوجوه والألسُن، لكن.. تحت الرماد خوفاً من ردّات الفعل «السلطوية» الجديدة وسلاحُها في المناطق السورية خارج دمشق، فالت للأسف من أي عقال أو عقل خلف ستار.. الانتصار على الحاكم الظالم الوارث الظلم، والاحتفال بسقوطه!

 

فهل كانت زنوبيا ملكة تدمر تتوقع أن المؤرخين الذين وضعوها في مكانها الأمامي على طول أكثر من ألفي سنة سيُفرَض عليهم قمعٌ من أبناء بلدها سوريا، فيسحبونها من شَعرها إلى خارج التاريخ.. ويلقونها في النسيان المتعَمّد بذريعة غير مفهومة، غير معلومة، ومذمومة؟

وهل كان الإمام علي بن أبي طالب الذي تحار البشرية اليوم إعجاباً وأكراماً في تصنيف فكره وشخصيته ومواقفه، وتبحث عمّا يصحّ فيه من الألقاب الوازنة، يعرف أنه سيأتي يوم، بعد وفاته بألف وثلاثمئة سنة، ليُنزَع عنه لقب «كرّم لله وجهه» (ويقال أن اللقب أُطلق عليه لأنه لم ينظُر إلى أي صنَم كان يُعبَد في تلك الأيام!) لصالح لقب تقديري آخَر أُعطي لكثيرين غيره من الصحابة الأجلّاء، بهدفِ عدم تمييزه عن أحد، وهو أصلاً لا يحتاج لقباً ولا عناوين لشخصيّته، واسمه «عليّ بن أبي طالب» كافٍ ووافٍ ليوصِل المعاني؟

ثم ما هي مشكلتكم مع زعيم سوري كبير هو إبراهيم هنانو قاوم الإنتداب الفرنسي مطلع القرن العشرين وانتصر عليه في أكثر من واقعة؟ هل لأنه مسيحي؟ أتريدون أن يكون المسيحيون مطية للانتداب وغيره؟

وهل كان الإسلام كلّه ضائعاً في المناهج التعليمية كي تتم الآن إعادة «إنتاجه» على الطريقة «السورية» الجديدة؟

وهل كان على فنون الموسيقى والغناء والتمثيل والنحت أن لا تُعذِّب نفسَها وتعذّب عباقرتها المحترِفين والمحترَمين في الشرق والغرب حتى أصبحت من عناوين الحضارات الكبرى في العالم، لأن هناك حُكْماً إسلامياً «سورياً» سيأتي ويمنعها.. مع أن أرض الرسالة المحمّدية – الإسلام، أي الحجاز، أي المملكة العربية السعودية التي كانت تتحسّس من بعض هذه الفنون باتت اليوم منصّة لأجمل وأبدع الإحتفالات الفنية.

هي ملاحظات ما كنا نحتسب أننا سنضطر إلى الإشارة إليها في عصر الذكاء الاصطناعي الذي يكاد يجعل البشرية «صناعةً» لا خَلْقاً من نُطفة ذات أمشاج!

عسى ألا نستفيق في يوم قريب ونجد أن صباح فخري وفيروز وأم كلثوم ونزار قباني وغيرهم من عمالقة الفنون، فضلاً عن أنصار «الثورة» وبينهم فنانون متميّزون كأصالة وجمال سليمان ومكسيم حكيم (وغالبية الآخرين ممن يعجز القلم عن إحصائهم) ممنوعين ومحظورين في الإذاعات والتلفزيونات السورية.

نعود إلى بداية المقال: لا الإدارة الأميركية ولا المجتمع الدولي ولا العربي والأهم لا إسرائيل، سيعترضون على أن نكون مجتَمعاً وصفَه المتنبي بالقول «أغايةُ الدين أن تُحفى شواربكُم/ يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ»…

وسوريا التي قهرها الظلم طويلاً، جدير بها حُكمٌ لا يكشف عَورات من سبقَه فقط، بل لا يُضيف إليها عورات تختزلُ الزمن وتقهره… فتصبح عورات النظام الهارب أرأف بسوريا وأهلها وماضيهم ومستقبلهم وأجيالهم عند المقارنة!