إخترت ان أبدأ سلسلة المقالات حول السبل الأفضل لزيادة إنتاجية الاقتصاد اللبناني بالتعليم، لأنّه الركن الأساس لأي اقتصاد منتج. وكلما ارتفع مستوى التعليم في اي مجتمع ارتفعت معه قيم الرأسمال البشري، وهو الاساس في الاقتصاد الحديث.
لا يمكن الادّعاء ان لدينا تعليماً رسمياً اليوم بمستوى مقبول. فالمشكلات التي تحاصر التعليم العام في لبنان كبيرة ومتعددة، جعلت هذا القطاع الحيوي والمهم، يصل إلى مستوى من السوء والتدهور، يهدّد بتحوّله مصدراً لتخريج جيش من الشباب العاطل من العمل.
أبرز المؤشرات التي تبيّن مدى أزمة التعليم الرسمي هو ابتعاد المواطنين من كل الطوائف والمناطق عن تسجيل أبنائهم فيها، بالرغم من الأزمة الاقتصادية وعدم قدرتهم على سداد أقساط المدارس الخاصة. فيفضلون مراكمة الديون على إرسال ابنائهم الى المدارس الرسمية. أما المؤشر الاخطر، هو انّ اساتذة التعليم الرسمي أنفسهم يعلّمون ابناءهم في مدارس خاصة، والدولة تدفع لهم بدلات مقابل ذلك. كما أنّ أساتذة الجامعة اللبنانية يعلّمون أولادهم في الجامعات الخاصة!
مشكلة اقتصادنا الاساسية هي البطالة التي تتهدّد كل شاب وفتاة. وابواب الهجرة تبقى الحل لهم نتيجة انعدام الفرص في مجتمعهم، في ظل غياب الرؤية الاستراتيجية لمستقبلهم، فيختارون اختصاصات عشوائية لا تراعي العصر المتطور او حتى سوق العمل المنتج، وتتحوّل تلك الاختصاصات الى ما يشبه البطالة المقنعة. وهنا لا اتكلم فقط عن الاختصاصات بل أيضاً عن مستوى التعليم من الصف الابتدائي الاول الى يوم التخرّج من الجامعات.
على المدارس الرسمية ان توفّر ميزتين للوصول الى مجتمع منتج : أولاً ترسيخ أسس المواطنة الصالحة والتفكير الصحيح لإبعاد الأجيال المقبلة عن الطائفية والتقوقع. ثانياً، ان تراعي المناهج – الذخيرة التي يجب ان يمتلكها الطالب ليصبح جزءاً من اقتصاد المعرفة، والتدرّب على الاقتصاد الجديد والاعتماد على الحاسوب، خصوصاً انّ الدلالات والاشارات توحي انّ الوظائف المستقبلية ستعتمد في الدرجة الاولى على الإبداع والريادة.
بالرغم من كل الخطط والموازنات الضخمة، فشلت الدولة في تأمين الحد الادنى المقبول في التعليم الرسمي. واذا قارنا النتائج المحققة بالمبالغ المدفوعة، نرى اننا امام هدر كبير وفرص ضائعة للعديد من الطلاب، وبالتالي، يجب التفكير في حلول جديدة تسمح بتحقيق نتائج سريعة. فيما يبدو الحل الاسلم ان تقوم مؤسسات تعليمية، مشهود لها قدراتها التعليمية، باستلام ادارة المدارس الرسمية، لرفع مستواها بنفس الكلفة المدفوعة حالياً من الدولة، حيث انّه بالتكاليف نفسها نحصل على مستوى تعليمي متطور. وهذا لا يعني بأي شكل من الاشكال الغاء سلطة الدولة عن التعليم الرسمي، بل يصبح دورها اشرافاً عاماً، وتتقدّم المؤسسات التعليمية المشهود لها بخبرتها العريقة والنتائج المحصلة في الامتحانات الرسمية من جهة، ومن جهة أخرى عدد التلاميذ في هذه المدارس، الذين وصلوا الى جامعات بالمستوى العالمي، وذلك عبر مناقصات مدروسة تُشرف عليها وزارة التربية، وان تتضمن العقود شروطاً صارمة تقضي بإلغائها تلقائياً، اذا كانت النتائج المحققة دون المستوى المطلوب. ويبقى لوزارة التربية دور الإشراف والتدخّل في حال وقوع اي اخطاء.
والنقطة الاهم في هذا المشروع، هو انه يجب الحفاظ على الهيئات التعليمية الموجودة، بشرط ان يتم إعادة تدريب المعلمين، من خلال تعاون تام مع الهيئات التعليمية القائمة. ومن الممكن تحسين المدخول المالي بشرط ان تتقبّل هذه الهيئات إعادة التدريب والخضوع لامتحانات.
وأود ان أذكر في هذا السياق مثالاً يُعتبر نموذجاً حياً لما احاول تفسيره. مدرسة سابيس – المتين المجانية، هي تجربة حية لما يمكن ان تتحوّل اليه المدرسة الرسمية، مستوى تعليمي بمستوى لا يقلّ عن اعرق المدارس الخاصة في لبنان، مستوى علوم متطور، لغة ممتازة، واعتماد على التكنولوجيا، وبكلفة اقل بكثير من الكلفة المدفوعة على كل طالب في المدرسة الرسمية.
بكل بساطة، ودون اللجوء الى أفكار ونظريات وفلسفات ما ورائية، ان لم نعمل وبكل جدّية على تأمين تعليم من أفضل المستويات لكل الفئات، سيكون مستقبل هذا البلد على المحك، وستكون فرص التطور ضئيلة جداً. وخصوصاً انّه آن الأوان لنتوقف عن الكلام عن فرص عمل غير مرتبطة بالانتاج والنمو وزيادة الانتاج وتوزيع مداخيل الانتاج على أكبر عدد من اللبنانيين. فخلاص لبنان اليوم هو بخلق فرص العمل المنتجة.
سنعالج في موضوعنا المقبل قانون مكافحة الفساد، الذي تمّ اقراره من حيث فعاليته وحدود تطبيقه. ونتمنى ممن يود التواصل والمناقشة، إرسال اقتراحات عبر البريد الالكتروني [email protected] أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بنا.