IMLebanon

المركز التربوي للبحوث: عقود توظيف واستشارات لـ«خبراء» بلا عمل

 

 

مع تغييب مجلس الاختصاصيين عن المركز التربوي للبحوث والإنماء لنحو 20 عاماً، تُحصر القرارات برئاسة المركز التي لا تشرك أيّاً من الموظفين الآخرين من رؤساء أقسام أو رؤساء المكاتب بها، وتسود لغة الفوقية في التعاطي مع من يملكون آراء مختلفة. في المركز متعاقدون واستشاريون محظيون يملأون جيوبهم من دون أن تأخذ عليهم الأجهزة الرقابية أي ممسك، ومشاريع تربوية «غير منتجة» تُصرف عليها أموال بلا طائل

 

يبدو المركز التربوي للبحوث والإنماء بألف خير. احتفل، أخيراً، بعيده الثامن والأربعين على مدى ثلاثة أيام!

 

من المال العام، كرّمت رئيسة المركز التربوي بالتكليف ندى عويجان محامية المركز جاكلين مسعود، في حفل كوكتيل في دار المعلمين في جونية، ورفعت لها نصباً تذكارياً. في اليوم التالي زرعت شجرة أرز في محمية الباروك. إلّا أن ضغوطاً داخلية حالت دون استكمال البرنامج بالاحتفال في اليوم الثالث في مقرّ المركز في سن الفيل. إذ رفض موظفون المشاركة في «احتفالات هدر»، في وقت ينتحر الناس جوعاً، وفيما لم ينَل موظفو المركز سلسلتهم الجديدة على غرار بقية موظفي القطاع العام، والبلد مهدّد بالإفلاس. بناء عليه، عُدّل البرنامج من احتفال بعيد المركز إلى تكريم للمتقاعدين!

عندما قرر وزير التربية السابق الياس بو صعب، في 24 كانون الثاني 2015، عدم التجديد للرئيسة السابقة للمركز التربوي للبحوث والإنماء ليلى مليحة فياض (بقيت في منصبها 13 عاماً) عزا ذلك يومها إلى محاولة ضخّ دم جديد، والسعي لتكليف رئيس جديد وتشكيل مجلس الاختصاصيين المعطّل منذ سنوات، وإعادة تفعيل عمل المركز. أمل التربويون أن يشكل ذلك فرصة جدية لإعادة الاعتبار إلى المركز التربوي ودوره، وأفول مرحلة «سوداء» من تاريخه.

اليوم، بعد 5 سنوات على تكليف عويجان، لا شيء تغيّر. لا يزال مجلس الاختصاصيين مغيباً، ورئاسة المركز تملك سلطة مطلقة، ولا يشاركها أي من رؤساء الأقسام أو رؤساء المكاتب في القرارات، اللهم إلّا في التسليم بها وعدم مناقشتها. والأداء الحالي لا يعدو كونه امتداداً للحقبة السابقة، مع استمرار «اختراع أنشطة واحتفالات فارغة ومشاريع تربوية غير منتجة، تُصرف عليها أموال طائلة من دون أيّ مخرجات ملموسة في واقع التعليم»، وفق تأكيدات مصادر تربوية.

في غياب مجلس الاختصاصيين، تختصر الرئاسة بشخصها عمل المجلس الموكل مناقشة مشروع الموازنة وإقرارها، إقرار خطة العمل السنوية والأنظمة الداخلية والوحدات المرتبطة بأجهزة المركز، التعاقد مع المرشحين للعمل في مختلف النشاطات وفسخ التعاقد وتجديده عند اللزوم، وترشيح ممثلي المركز في لجان التخطيط العام، وقبول الاشتراك في المؤتمرات وترشيح ممثلين إليها، وإقرار المشاريع التربوية والإنمائية. ومن مهمات المجلس أيضاً إبداء الرأي وتعديل القوانين والأنظمة وبت الكتب المدرسية والمنشورات والوسائل التربوية لجهة تقرير اعتمادها في حقول التعليم.

على مدى السنوات العشرين الماضية، تخلى المركز، المفترض أنه «العقل المخطط» للتربية، عن مهمته في هندسة السياسات التربوية، واستحال موقعاً وظيفياً زبائنياً بحث العاملون فيه عن الانتفاع المادي والشخصي والسياسي. ولعل أبرز المظاهر على ذلك، الإصرار على التعاقد مع مستشارين بموجب عقود لمدة 6 أشهر وبأجور مرتفعة. وهؤلاء موجودون في كلّ اللجان والمشاريع على حساب الخبراء. وتشير مصادر إدارية في المركز إلى مداخيل خيالية لأصحاب الحظوة والأقارب منهم. فعلى سبيل المثال، تم التعاقد مع مستشارة قانونية لمدة 6 أشهر مقابل 36 مليون ليرة، إضافة إلى مليون و900 ألف ليرة بدل نقل. فيما تتقاضى متعاقدة أخرى، هي مهندسة زراعية، 12 مليون ليرة مقابل ستة أشهر و900 ألف ليرة بدل نقل من دون أن يكون لها عمل محدد، وتشغل متعاقدة ثالثة وظيفة مديرة مكتب وتتقاضى 21 مليوناً على مدى ستة أشهر و900 ألف ليرة بدل نقل. وتداوم ابنة موظف كبير في المركز يومين في الأسبوع من دون أن تكون لها مهام محددة، بموجب عقد لستة أشهر قيمته 12 مليون ليرة إضافة إلى 600 ألف ليرة بدل نقل. قيمة عقد ممثل وزارة التربية في المركز 35 مليون ليرة لستة أشهر إضافة إلى مليون و900 ألف ليرة بدل نقل، إضافة إلى ما يتقاضاه من المشاريع واللجان. أما المتعاقدة المهتمة بالعمل الإعلامي في المركز فتتقاضى أربعة ملايين ليرة شهرياً إضافة إلى 200 ألف ليرة بدل نقل، علماً بأنّ أخبار المركز التي تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي لا تمر، بحسب المصادر، عبر القنوات الإدارية ولا تأخذ بتوجيهات مسؤولي أقسام اللغة، وتشوبها أخطاء كثيرة بالعربية والإنكليزية. المصادر أشارت أيضاً إلى أنّه جرى التعاقد مع لجنة من تربويين وتقنيين للعمل على إنتاج المجلة التربوية وإخراجها علماً أنها لم تبصر النور بعد.

المصادر نفسها تلفت إلى أنه جرى تفعيل العمل الإعلامي والنشاط على مواقع التواصل الاجتماعي على حساب نوعيّة المشاريع التربويّة وفاعليّتها. فقد صُرفت أموال على لجان ومشاريع ليست أولوية وحاجة للتعليم، منها لجنة الاحتفال بلبنان الكبير ولجنة التراث ولجنة الاستقلال وغيرها، فيما لم توظف التقارير المتعلقة بالدراسات التربوية في تحسين نوعية التعليم.

المشروع الأبرز كان S2R2، وهو مشروع دعم توفير التعليم لجميع الأطفال، بمن فيهم الأطفال السوريون. المشروع ترأس كل لجانه رئيسة المركز، وهو مموّل من الجهات المانحة بقرض وهبة، وصرف الهبة مشروط بصرف القرض. وهو لا يرتبط، بحسب المصادر، بالحاجات ولا يرد على أزمات المدرسة الرسمية ويغلب عليه طابع تنفيع الأزلام. المصادر أشارت إلى أنّه تجري الآن صفقة لشراء موارد رقمية كجزء من تمويل S2R2 بقيمة ثلاثة ملايين دولار، سائلة ما إذا كانت هذه الموارد أولوية للمدرسة الرسمية في الوقت الحالي. وقد جرى فضّ العروض لثلاث شركات تبيّن أن إحداها لا تلبي الشروط المطلوبة، والثانية شارك صاحبها في وضع دفتر الشروط، وثالثة يملكها ابن وزوجة أحد الخبراء التربويين الذين شاركوا أيضاً في وضع دفتر الشروط، ووقّع المركز عقداً معه ليكون منسقاً لتطوير المناهج التربوية.

الأيام التي لا تُعقد فيها ورش عمل في المركز لنشاطات في إطار مشروع S2R2 قليلة. فيما تؤكد المصادر أنه ليس مفهوماً الجدوى التربوية لهذه الورش وما إذا كانت تستجيب للحاجات التعليمية، كأن تنظم ورشة لتحديد سياسة واستراتيجية عملية الإنتاج والنشر من خلال تقسيم مختلف الموارد المنتجة من جانب المركز إلى مجموعات وتحديد الفئة المستهدفة من كل مجموعة، إضافة إلى وضع أدلة عن أسس التأليف والنشر، والهوية البصرية ودليل المؤلف.

 

البحث جار في صفقة لشراء موارد رقمية بثلاثة ملايين دولار أميركي

 

 

وهناك الأطر المرجعية لكفايات المدير التي يقدمها المركز التربوي على أنها «مرجع قانوني وإداري وتنظيمي، ينسجم مع السياسات التربوية، ويحدد الكفايات (معارف ومهارات واتّجاهات وسلوكيات) التي يجب أن يتمتع بها المدير، ويربط بين المدير ومختلف الجهات والأفراد». وهذا، وفق المصادر نفسها، مشروع غير قابل للتطبيق، لكونه يقارب الإدارة التربوية بشكل سطحي، سائلة عن جدوى الإنفاق في هذا المجال بالنظر إلى الاعتبارات السياسية التنفيعية التي تحكم تعيين مديري المدارس الرسمية.

في مقابل هذا كلّه، لم يحصل موظفو المركز حتى الآن على سلسلة الرتب والرواتب التي أقرت لموظفي القطاع العام بموجب القانون 46 الصادر في 21/8/2017. وفي التفاصيل التي يروونها أنّ مجلس الوزراء طلب حذف بعض أسماء الذين أُبرمت لهم عقود قبل الانتخابات النيابية، وأن يعدّل الدوام ليكون 35 ساعة بدلاً من 40 ساعة على غرار بقية موظفي القطاع العام. لكن ما حصل أن المركز التربوي استردّ السلسلة وحذف أسماء بعض الموظفين وجرى الإصرار على عقود بعض الاستشاريين، ما أدى إلى توقيف المشروع في مجلس الوزراء.

المصادر التربوية تسأل: هل الأولوية في هذا البلد المنكوب الإنفاق على مشاريع لا تلبي حاجات التعليم؟ وأين نواتج «همروجة» تطوير المناهج؟ ولماذا لا يتدخّل التفتيش الإداري والمالي لوضع اليد على مكامن الهدر والفساد في المركز؟

«الأخبار» تواصلت مع عويجان، قبل أيام، من أجل التعليق على هذه المعطيات، فآثرت الاستمهال أياماً قليلة على أن تجيب عن الأسئلة التي وُجهت إليها بعد انقضاء فترة الأعياد.

 

انفصام تربوي

تتكرر المشاريع التربوية في المركز التربوي للبحوث والإنماء ووزارة التربية. بحسب مصادر الموظفين في المركز، لا شراكة ولا تنسيق بين الفرق التي تعمل على عناوين متشابهة. إذ يمكن أن نجد لجاناً مختلفة في المكانين تعمل على موضوعات مثل البيئة المدرسية، الدعم النفسي الاجتماعي، خدمة المجتمع والأنشطة اللاصفية، من دون أن تكون قد التقت يوماً. حتى اللجنة المركزية للتدريب المستمر التي تضم المدير العام للتربية ورئيسة المركز التربوي ومكتب الإعداد والتدريب لم تجتمع منذ وقت طويل. هو أشبه بانفصام تربوي، كما قالت المصادر، ولا ينحصر بالمركز والوزارة فحسب، انما يطال جهات أخرى في المربع التربوي: المديرية العامة للتربية، المركز التربوي للبحوث والانماء، التفتيش التربوي وكلية التربية في الجامعة اللبنانية. وفق المصادر، لم يجر يوماً إعلان وطني عن أثر المشاريع التي تنفذها كل من هذه الجهات الأربع على حدة وتنفق عليها من المال العام، وكيف يمكن تثمير النتائج المتأتية منها لجهة مواكبة المستجدات التربوية ووصل الأستاذ بكل المتغيرات الحديثة التي تعتمدها الدولة في سياساتها العامة ومناهجها.