في زمن تفكك اوصال الدول ومجتمعاتها في العالم العربي، دولة عربية واحدة لم يكن لأي طرف خارجي يد في انشائها، مصر، بحدودها التاريخية وجغرافيتها المحددة وشريان حياتها النيل، ودولتها الحديثة منذ محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر.
تبدلت اوضاع مصر المعاصرة مع مجيء «الضباط الاحرار» وقائدهم الفعلي جمال عبد الناصر الى السلطة في 1952. ادخل عبد الناصر مصر، دولة وشعبا، في كنف العروبة وسرعان ما اصبح قائدها على امتداد الوطن العربي. وجاءت حرب السويس لتجعل من الرئيس المصري زعيما عربيا بلا منازع، بل باتت الناصرية حاجة لتمتين عروبة روادها في المشرق، وفي مقدمهم حزب البعث في سوريا، الذي طالما نادى بضم مصر الى الحراك القومي العربي، فتحقق الحلم مع الوحدة بين مصر وسوريا في 1958. لم تدم الجمهورية العربية المتحدة طويلا وانفصل ركناها بعد ثلاث سنوات انتجت تباينات حادة بين طرفي الوحدة.
اعطت الناصرية القومية العربية بعدا شعبيا وقيادة مرجعية على المستوى الاقليمي. أفل نجم الناصرية بعد هزيمة 1967 ولم يغب الا بعد رحيل عبد الناصر المفاجئ في 1970. مصر السادات عادت الى جذورها الوطنية، الى حقبة ما قبل العروبة الناصرية. حرب 1973 كرّست الرئيس السادات «بطل العبور»، وما لبث ان اصبح «بطل النفور» بعدما اصطدم مع القوى السياسية والنخب المصرية من الاتجاهات كافة لا سيما بعد معاهدة السلام بين مصر واسرائيل في 1979. قضى السادات اغتيالا على يد تنظيم اسلامي متطرف، «التكفير والهجرة»، بعدما هجر جماعة الاخوان المسلمين. انتقال السلطة الى نائب الرئيس حسني مبارك في 1981 حصل بانتظام واستطاعت مصر ان تسترجع دورها الاقليمي بعد تغييب قسري دام نحو عقد وعادت الجامعة العربية الى مقرها في القاهرة بعد انتقالها الى تونس، وشاركت مصر بوسائل مختلفة بانهاء الحرب العراقية – الايرانية وفي حرب تحرير الكويت.
لم يَحِدْ الرئيس مبارك عن المسار العام لسياسة سلفه، الا ان عهده تميز بمشروع التوريث العائلي، وهذا بالذات ما ساهم بتأليب الرأي العام ضده، المنقسم حول مسائل عديدة والمتفِق على رفض التوريث. انطلقت الانتفاضة الشعبية في 2011 ضد النظام الحاكم وعمليا ضد مشروع التوريث، فانتقل الرئيس والورثة من افراد العائلة من القصر الى السجن. غاب عن الانتفاضة شعارات عهديْ عبد الناصر والسادات وانشغلت الناس بهمومها الداخلية ولم يكن للقضايا العربية او الخارجية اثر يذكر، فلا هي ثورة «الضباط الاحرار» ولا ثورة عرابي.
جاء «الاخوان المسلمون» ليقطفوا ثمار «ربيع» مصر، وهم الاكثر تماسكا وتنظيما، وليمارسوا احتكارا للسلطة في الداخل ومرونة لافتة في السياسة الخارجية، وتحديدا في العلاقات مع الولايات المتحدة واسرائيل. انتفضت مصر من جديد ضد الاستئثار الاخواني بالسلطة، وكانت المؤسسة العسكرية بالمرصاد، فأصبح محمد مرسي ثاني رئيس يدخل السجن من اصل اربعة حكموا مصر منذ عهد الملكية.
مصر اليوم تبحث عن توازن جديد، وان استطاعت الدولة ان تتصدى للتنظيمات المسلحة في سيناء وتجلب الدعم الاقتصادي من الدول العربية والعالم. ومع غياب القضايا الاقليمية المشتركة، ابرزها القومية العربية وفلسطين، يصعب تحديد خريطة طريق واضحة المعالم للدور المصري. القوة العربية المشتركة التي اقترحها الرئيس السيسي وتبنتها القمة العربية في شرم الشيخ بعد حرب اليمن، او بسببها، تصطدم بتناقضات الواقع العربي المبعثر وبطموحات دول جوار العالم العربي، ايران وتركيا تحديدا.
في مراحل سابقة، كان التلاحم مطلوبا بين الثورة التي جسدها عبد الناصر وجيله من القادة العرب والثروة النفطية التي مثلتها دول الخليج العربي لاسيما السعودية، وتحقق ذلك في حرب 1973. اما اليوم، فلا عدو مشتركا يجمع والثورة عادة تفرق ولا تجمع. المطروح اليوم تعاون براغماتي يجمع بين القدرات العسكرية المصرية والقدرات المالية لدول الخليج. فباستثناء اليمن وحربها التي قد تنتقل الى داخل البلاد، فإن غياب القضية الجامعة او العدو المشترك لا يساعد على بلورة دور مصر الاقليمي.
في يمن الامس، كان الصدام بين مصر والسعودية، وفي يمن اليوم، الطرفان متحالفان. وبين الحقبتين، برزت تحديات داخل دول المنطقة وفي ما بينها، ابرزها الآن التطرف الديني. كما ان مصر تواجه مخاطر غير مسبوقة مصدرها ليبيا المجاورة حيث فوضى الدولة والمجتمع متفاقمة. اما التصدي لعدو مشترك الامس، فبات خارج التداول. لكن برغم هذه التحديات، تبقى مصر حاجة لاستقرار النظام الاقليمي العربي مهما كانت حالها او حال النظام الاقليمي المتهالك على مرأى من اهله ومريديه وان اختلفوا على مراسم الدفن وتاريخ اعلان الوفاة.