عندما عبرت صفقة «الغاز المصري» في حقل الألغام السوري في درعا بنجاح غير متوقع، كان على اللبنانيين ان يفهموا انّ أكثر من 90 % من الطريق الى تشكيل الحكومة قد قُطعت. فالحديث عن تفاهمات فرنسية ـ ايرانية، باركتها واشنطن وموسكو، بات أقرب الى منطق الامور، وهو ما فتح الطريق الى مسلسل الضغوط التي أنهت الجدل العقيم حول بعض الحقائب التي شكّلت غطاء لموانع خارجية. فكيف السبيل الى فهم هذه المعادلة؟
بمعزل عن «إنجازات الصهرين» رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل والقنصل مصطفى الصلح، اللذين نُسبت إليهما «التسوية الاخيرة» التي قادت الى فكفكة آخر العِقد لتأمين الولادة الحكومية، فإنّ المعلومات الدقيقة تشي بأنّ هناك إشارات دولية واقليمية ساهمت في ايجاد المخرج لإنهاء الفراغ الحكومي، في لحظة توافرت فجأة بعد عام وشهر كامل على استقالة حكومة «مواجهة التحدّيات» في 10 آب من العام الماضي. وهو ما اصطلح على تسميته «الصفقة الملحقة» بالتفاهمات الإقليمية والدولية، للدلالة الى انّ تقاعس المسؤولين اللبنانيين وعدم قدرتهم على إدارة شؤون البلاد والعباد، قد اثبتوا فشلهم عندما فوّتوا عشرات الفرص الذهبية قبل أشهر عدة، والتي كان يمكن ان تؤدي الى ولادة حكومية، يمكن لمن سعى اليها وشكّلها، الادّعاء بأنّها «صُنعت في لبنان».
وإن توقف المراقبون والديبلوماسيون امام مجموعة التطورات الإقليمية والدولية التي سبقت الولادة الحكومية، لا يمكنهم ان يتجاهلوا كل ما قاد الى إحياء «خط الغاز المصري» الرباعي بسحر ساحر وفي ايام قليلة. فهو أمر لا يمكن ان يكون خطوة منفصلة عن جملة تفاهمات أجمعت على الإعتراف بالحاجة الى وقف مسلسل الانهيارات المحتملة في لبنان من بوابات عدة، اختلطت فيها الجهود العربية بالغربية، وهو ما انعكس على الوضع الحكومي في الشكل الذي شهده لبنان في الأمس.
وعلى هامش هذه المعطيات الجديدة، كان لا بدّ من رصد مجموعة الاتصالات الغربية التي تلقّاها المسؤولون اللبنانيون في الساعات القليلة الماضية، الى حدّ اعتراف أحد المستشارين الكبار، بأنّ اتصالات اعضاء فريق الأزمة الفرنسية بفريق رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف وفريقه، بمن فيهم الصهر مصطفى الصلح، كما بالنسبة الى مجموعة الضغوط التي مارستها الإدارة الاميركية عبر سفيرتها في لبنان دوروثي شيا، ومجموعة الوفود من الكونغرس الاميركي والقادة العسكريين الذين وجّهوا رسائل قاسية الى المسؤولين عن ملف التأليف، من أجل استغلال اللحظة التي توافق فيها الجميع على تسهيل هذه العملية في هذه المرحلة الحرجة التي تمرّ فيها البلاد لأكثر من سبب، ولا سيما في مواجهة مسلسل الاستحقاقات المقبلة على المنطقة، والتي لا يمكن ان يتحمّلها البلد الصغير.
وقياساً على هذه الخلفيات، توقف المراقبون امام مجموعة من العناصر التي تلاقت على الإسراع في عملية التأليف وإقفال الحجج التافهة التي بُنيت عليها العِقد الأخيرة بما رافقها من مشاريع مطبات ومقالب تخفي خلفها مجموعة من ردّات الفعل العصبية التي قادت الى التمسّك بالحقائب تارة، وبالأشخاص تارة أخرى في آن. وعليه يمكن الإشارة الى العناصر الآتية:
– لا يمكن الإستخفاف بما شهدته بغداد على هامش مؤتمر دول الجوار العراقي الذي سجّل فيه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أكثر من هدف. ويُقال انّ في لقاءاته المنفردة وخصوصاً مع وزير الخارجية الإيرانية امير حسين عبداللهيان، الذي أنتج تفاهماً قاد الى تليين المواقف في شأن ملف لبنان وتسهيل تأليف الحكومة، وهو ما تولّى ترجمته فريق الأزمة الفرنسية صراحة من خلال الاتصالات اليومية المكثفة غير المسبوقة التي رافقت عملية تذليل العِقد الأخيرة، ولعلّ اختيارهم صديقهم اللبناني قنصل لبنان في موناكو مصطفى الصلح، شكّل معبراً الى التفاهمات الأخيرة مع جبران باسيل، والتي ستثمر منح نواب كتلته الثقة للحكومة العتيدة.
– التفاهم الذي ترجمته لقاءات عمان على مستوى وزراء الطاقة الاربعة في مصر والأردن وسوريا ولبنان، من أجل إحياء خط الغاز المصري عبر الاردن لزيادة إنتاجه من الطاقة وبيعها للبنان عبر الاراضي السورية، والذي تبين من خلال الجهود الاردنية التي ترجمها العاهل الأردني في قمته مع نظيره الاميركي جو بايدن، بعد اتصالات تمهيدية أجراها مع العاصمتين السورية والمصرية، قد أثمرت بسرعة قياسية قبل الحديث عن الفيول الإيراني. فقد ثبت انّ ترميم خط الغاز ليس بالأمر الصعب او المستحيل. فالأعطال التي اصيب بها إبّان الحرب السورية قابلة للترميم في وقت قياسي لا يتجاوز مهلة الشهر، وقد تعهّدت الدول الاربع ترميم الخطوط ضمن اراضيها.
– ظهر جلياً انّ الحديث عن الملاحظات السورية على تشغيل خط الغاز المصري العابر في اراضيها لتزويد لبنان الغاز الكافي، كان كلاماً لبنانياً محلياً ممجوجاً، حلّته زيارة لوفد وزاري على الطريقة البروتوكولية، فيما القيادة السورية كانت في وادٍ اخرى. فالرعاية الروسية للحل ووقف المعارك التي استُجدت في منطقة درعا ومحيطها، حيث اكبر الأضرار اللاحقة بخط الغاز المصري في المنطقة، كان مؤشراً الى الدعم الذي وعدت به موسكو لتسهيل اصلاحها، للإسراع في تنفيذ التفاهم الايراني ـ الفرنسي الذي ظلّلته العاصمتان الاميركية والروسية التي جاءت به الحكومتان المصرية والاردنية، فأضيفت جهودهما الى ما بذلته الادارة الاميركية لدى البنك الدولي من جهد مماثل لتمويل ما يعجز عنه لبنان لفتح ثغرة في إنتاج الطاقة ورفع نسبة التغذية، بعد وصول الفيول العراقي توصلاً الى ما يوفر ساعات اضافية من التغذية التي يفتقدها اللبنانيون منذ فترة طويلة.
عند هذه الملاحظات والعناوين الأساسية التي وفّرت اجواء إقليمية ودولية ضاغطة من اجل تشكيل الحكومة العتيدة، يبقى كثير من التفاصيل التي عدّت من نتائجها المباشرة وغير المباشرة. ومن بين ما يمكن الإشارة إليه، فتح الطريق البحري امام بواخر الفيول الايراني من بوابتي مضيقي هرمز وباب المندب وصولاً الى قناة السويس بطريقة آمنة، ومن ثم الى الساحل السوري لنقلها الى لبنان بكميات محدودة، يمكن ان تشكّل تعويضاً للنقص الحاصل في السوق الداخلية من المادة لاسبوعين لا اكثر ولا اقل، في انتظار وصول الغاز المصري وبدء انتظام المعونة العراقية التي ستشغل معامل الطاقة مجدداً.
وبناءً على ما تقدّم، لا بدّ من الإشارة الى انّ الانفراجة الحكومية أمس لم تكن وليدة جهود المسؤولين اللبنانيين بمقدار ما جاءت نتيجة هذه التحولات الاقليمية والدولية التي بدأت بإحياء خط الغاز المصري، على ان تُكلّف الحكومة العتيدة خوض غمار الاتصالات مع صندوق النقد الدولي والجهات الدائنة، على وقع مجموعة من المساعدات المالية التي ستفرج الوضع من زوايا صغيرة، ولكن تعدّدها سيزيد من اولى فرص التعافي والانقاذ المنتظرة، ولو في شكل محدود، لتنتقل البلاد بخطوات محدودة الحجم والنتائج الى مرحلة جديدة، الى ان تأتي التطورات بانفراجات اوسع، إن أحسنت الحكومة الجديدة في أدائها.