في ذروة حالة العنف والتفتت التي يُعاني منها النظام السياسي العربي، جاءت الحركة السياسية والدبلوماسية الناشطة التي تقودها الشقيقة مصر في أكثر من اتجاه، لتعبّر عن أول محاولة جدّية لإعادة لملمة الصف العربي، واستعادة عناصر القوة والهيبة فيه، عبر العودة إلى اعتماد سياسة التضامن العربي، وتجديد استراتيجية البيت العربي، بمواجهة التحديات المحدقة بالأمة من كل حدب وصوب.
أكثر التكهنات تفاؤلاً، لم تكن تتوقع عودة مصر إلى دورها الطليعي قبل خمس سنوات، نظراً لواقع التركة الثقيلة التي ورثها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عن فترة الاضطرابات وانهيار الاقتصاد، التي سبقت تسلمه مقاليد السلطة.
ولكن استراتيجية التحرّك السريع، التي وضعتها دوائر القرار في القاهرة، بتشجيع شخصي من الرئيس السيسي، استطاعت أن تحقق سلسلة خطوات مهمة، أعادت مصر إلى موقعها الاستراتيجي في خريطة المنطقة، مكرّسة المحورين التقليديين للسياسة الخارجية المصرية: المحور العربي وركيزته الأساسية المملكة العربية السعودية، والمحور الإفريقي ومنطلقاته المصرية المعهودة السودان، وبشطريه اليوم: الشمالي والجنوبي.
يمكن القول إن التحرّك المصري باتجاه المحور العربي، بدأ بعد أشهر قليلة من وصول السيسي إلى الرئاسة المصرية، وكانت خطواته الأولى باتجاه الشقيقة الكبرى السعودية، لطي صفحة الخلافات التي خاضتها حكومة الإخوان مع الرياض، وتسببت بكثير من الإرباكات، لم تهدّد المصالح المصرية ومصير مئات الآلاف من المصريين العاملين في المملكة وبلدان الخليج الأخرى وحسب، بل ساهمت، وإلى حدّ بعيد، في إضعاف الموقف العربي أمام الهجمات الشرسة التي تشنها كل من إيران وتركيا، لتمديد نفوذهما إلى الجسم العربي المريض، واستغلال الاضطرابات والانقسامات الخبيثة التي أشعلت أكثر من دولة عربية.
تنقية الأجواء المصرية – الخليجية، والتي تمت بسرعة قياسية، شجعت القاهرة على المضي قدماً في الاستراتيجية الجديدة. تنبهت القيادة المصرية الجديدة إلى خطورة استمرار النزيف السوري بهذا الشكل المخيف، وكان أن طرحت مصر اقتراحاً بالعمل على تسوية سياسية تحقق آمال الشعب السوري في إعادة الأمن والسلام والاستقرار إلى الربوع السورية، في وقت كانت مهمة المبعوث الدولي – العربي وصلت إلى حائط مسدود، وأعلن الدبلوماسي المخضرم الأخضر الإبراهيمي استقالته من المهمة السورية.
عملت الديبلوماسية المصرية شهوراً طويلة، وبتكتم شديد، لنزع الألغام من أمام عربة الحل السياسي في سوريا، وأجرت اتصالات مكثفة مع دمشق، ومع قادة المعارضة، ومع العواصم العربية والغربية المعنية بالوضع السوري، إلى أن حققت هذا الإجماع العربي – الغربي المؤيد لعقد مؤتمر دولي يجمع الأطراف السياسية، من النظام إلى الفصائل السورية المعارضة، للبحث في الخطوط العريضة لتسوية سياسية تُنهي الحرب المدمّرة في سوريا، وتوحّد كل الجهود في المعركة المحتدمة ضد الإرهاب.
* * *
السودان، كانت المحطة الثانية على درب النجاح السريع للدبلوماسية المصرية الجديدة.
ليس سراً أن النظام السوداني الذي أنهكته الحروب الداخلية، والمعارك والضغوطات الخارجية، كان يسبح في الفضاء الإيراني، بعيداً عن الحضن العربي، لأسباب وتراكمات لا مجال للخوض في تفاصيلها، في هذه العجالة.
وشهدت العلاقات المصرية – السودانية مراحل متعددة من التوتر حيناً، والتصادم أحياناً كثيرة، الأمر الذي أدى إلى تعطيل العلاقات الأخوية والمتداخلة بين البلدين الشقيقين المتجاورين، واللذين كانا كياناً موحداً في عهد الملكية.
الرهان المصري في استعادة السودان إلى الصف العربي، كانت دونه تحدّيات عديدة، خاصة وأن القاهرة بدأت معركتها الديبلوماسية لوقف مخططات تحوير استخدام مياه نهر النيل، وإقناع الحبشة بالتخلي عن مشروع سد «النهضة»، الذي يُشكّل تهديداً لأمن مصر المائي والغذائي.
ورغم كل المعوقات التي اعترضتها، استطاعت الجهود المصرية تفكيك عقدة الموقف السوداني المبتعد عن الموقع العربي، وساهمت في إخماد نار الخلافات المتأججة بين الشمال والجنوب، بل وذهبت القاهرة إلى حدّ دعم السلطة الشرعية ضد المتمردين في الجنوب.
وكان أن بدأت الخرطوم رحلة العودة إلى الصف العربي، فيما تدرس حكومة سلفاكير في الجنوب تقديم طلب الانضمام إلى جامعة الدول العربية!
* * *
لبنان ليس غائباً عن خريطة الاهتمامات المصرية، ولعل المساعي المصرية في ملف أزمة الإفتاء، وما انتهت إليه من توحيد الصف الإسلامي في انتخاب مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، ترسم صورة واضحة عن مدى حرص الشقيقة الكبرى على أوضاع واستقرار الشقيق الأصغر، خاصة وأن أزمة الاستحقاق الرئاسي مفتوحة على مصراعيها!
* * *
أما المصالحة المصرية مع قطر، والتي تمت بمبادرة شخصية من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، فجاءت لتُكمل عقد الموقف الخليجي الداعم لمصر ودورها القومي المميز، فضلاً عمّا تعنيه عودة النظام العربي إلى التماسك، واستعادة القدرة على التصدّي، في حسابات المواجهات المفتوحة أمام التمدّد الإيراني من جهة، والطموحات التركية من جهة أخرى!