IMLebanon

مصر على الخط العسكري في الحرب على «داعش»

دخلت مصر رسمياًَ وعملياً الحرب على «داعش» عبر البوابة الليبية هذا الأسبوع، وعزز الاردن في الأسبوع الماضي عملياته العسكرية على «داعش» عبر البوابة السورية. العراق تعهد بسحق «داعش» في الساحة العراقية التي تشهد غارات مكثفة لقوى «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة والتي هي أيضاً ساحة شراكة الأمر الواقع لإيران في هذه الحرب المتعددة الأطراف والمتنوعة الشركاء. تجييش الدول العربية في هذه الحرب تزامن مع تكاثر الكلام في الساحة الأميركية عن ضرورة تصدّر العرب للمعارك قبل أن تتخذ الولايات المتحدة إجراءات نوعية تتعدى الغارات الجوية الى قوات داعمة برّياً على الأرض تكون مكملة للقوات العربية. المدهش المثير للفضول هو ان تنظيم «داعش» يبدو أنه إما يسير في الخطى المرسومة له فيرتكب أبشع الجرائم التي ستؤدي الى سحقه أو انه يرسم عبر جرائمه الوحشية الخطى التي يسير عليها أركان الحرب ضده فيزيد هؤلاء الأقطاب استدراجاً وتوريطاً.

الواضح هو ان ذلك الـ»داعش» الذي نصّب نفسه منارة تستدعي الانصباب عليها بات عملياً متستراً على عدو زعم انه أولويته، وتحديداً النظام في دمشق وحلفاءه في ساحة الحرب السورية ايران و «حزب الله». واضح ان «داعش» سوّق نفسه على أنه العدو الجبّار الذي لا حدود تعيقه ولا جيوش تهزمه لأنه توغّل في العقول والعاطفة واعتمد الفظائع سلاحاً وأداة اعلامية عالمية تبقيه حيّاً حتى لو تم تدميره في المواقع العسكرية. العسكريون يقولون انه لو توفّر العزم الجدي على سحق «داعش» لتمكنت الآلة العسكرية لقوى التحالف الدولي من اتمام تلك المهمة في غضون أسابيع وشهور وليس سنوات، وان دخول مصر على الخط العسكري في الحرب على «داعش» في ليبيا تطور فائق الأهمية بغض النظر إن أتى بصلاحية من مجلس الأمن أو عبر تحالف آخر يضم مصر وروسيا. مصر قادرة عسكرياً على إلحاق الهزيمة بـ «داعش» في ليبيا، إنما حلقة الانتقام لن تُقفل فوراً وإمكان توريط مصر جدية. ثم ماذا عن ليبيا بعد سحق «داعش» فيها؟ هل ستعود الى النسيان الدولي لها، أم ان هناك استراتيجية متكاملة تتعدى مجرد «داعش» ومخاوف أوروبا من تدفق اللاجئين والإرهابيين اليها؟ «داعش» قد يسجل له التاريخ انه ظاهرة تفشت كالطاعون، وانتهت. أما سورية وليبيا والعراق، وكذلك اليمن، فإنها دول مزّقها طغاة السياسة المحلية والدولية عبر لعبة الاقدام والامتناع باسم المصالح والسلطوية.

أية استراتيجية تتعلق بليبيا يجب أن تأخذ في حسابها ان الأسرة الدولية مسؤولة جزئياً عما آلت اليه الأمور في ليبيا. الرئيس باراك أوباما سبق وحمّل أوروبا بالدرجة الأولى – من دون أن يعفي الولايات المتحدة – ارتكاب خطأ ترك ليبيا تتخبط في مرحلة انتقالية لم تكن مهيأة لها لا سياسياً ولا عبر المؤسسات. الجميع هرول مغادراً بعد الاحتفاء وتبادل التهنئة والقبلات على انجاز اسقاط الطاغية في طرابلس عبر قوات حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي قصفت على أساس صلاحية من مجلس الأمن تحدّتها روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا لاحقاً.

قوى التطرف الإسلامي تربّصت ضاحكة على تصريحات الأميركيين والأوروبيين بأن ما حدث في ليبيا أثبت فشل «القاعدة» وأمثالها وأثبت نجاح الاستراتيجية الغربية، أي ضرب الطاغية و «القاعدة» معاً، وكما قالت مناضلة ليبية منذ ثلاثين سنة، ما حذّر منه وأسهب في شرحه سيف الإسلام القذافي عندما نبّه الى الآتي «حدث بحذافيره».

وهكذا، أصبحت ليبيا اليوم الساحة الثالثة في الحرب على «داعش» – بعد العراق وسورية – انما بتلكؤ ملفت من قِبَل الدول الراغبة ذاتها التي تعانق كبار مسؤوليها احتفاءً بإنجازهم فيها قبل ثلاث سنوات في العواصم وفي قاعة مجلس الأمن الدولي.

أجواء هذه القاعة اليوم مختلفة تماماً عما كانت عليه حينذاك. فلقد توجه اليها كل من وزير خارجية مصر سامح شكري ووزير خارجية ليبيا محمد الدايري مفترضين ان زخم الجريمة المروعة بذبح جماعي لـ21 قبطياً مصرياً على شاطئ في ليبيا سيثير دعم مجلس الأمن القاطع لإصدار قرار يعطي صلاحية عسكرية لسحق «داعش» في ليبيا.

ايطاليا كانت في غاية الحماس في البداية لعمليات عسكرية بصلاحية دولية، ثم تراجعت في خطابها أمام مجلس الأمن الذي عقد بطلب من الأردن، العضو العربي الوحيد، تلبية لرغبة مصرية وليبية. فرنسا كانت جاهزة على مستوى الرئاسة للتقدم بطلب مشترك مع مصر لانعقاد الجلسة، ثم تسلقت هبوطاً وتنصّلت من الدعوة كما من مشروع القرار.

وفيما اندفعت مصر وليبيا لتنفيذ ما أعلن عنه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من عزم على طلب صلاحية دولية للتدخل العسكري في ليبيا، تعمدت الولايات المتحدة وبريطانيا وايطاليا وفرنسا والمانيا واسبانيا إصدار بيان تزامن عمداً مع التحرك المصري – الليبي وشدد على الحل السياسي حصراً وإعطاء المبعوث الدولي برناردينو ليون (اسباني) فرصة جمع الفئات الليبية للتحاور بهدف تشكيل حكومة ائتلافية.

وتعمّد مجلس الأمن، برئاسة الصين، ان يشارك ليون في الجلسة العلنية عبر الأقمار الإصطناعية للتشديد على وجهة النظر الأوروبية ووجهة نظر الأمم المتحدة بأن هذا ليس وقت الصلاحية العسكرية، وقد لا يكون لاحقاً والأسباب متعددة.

الديبلوماسيتان المصرية والليبية استدركتا بسرعة، بعدما كانتا تسرّعتا الى الحديث علناً عن صلاحية تدخّل عسكري عنوانه محاربة «داعش» في ليبيا. أدركتا ان مجلس الأمن لن يوافق على قرار التدخل وان هناك تردداً كبيراً لدى دول عربية في دعم هذا الطلب منها الجارة المهمة لهما، الجزائر، التي توجه نائب وزير خارجيتها عبدالقادر مسهّل الى مجلس الأمن للمشاركة في المداولات برسالة واضحة فحواها ضرورة التمييز بين الاستقرار والأمن في ليبيا وبين مكافحة الإرهاب المتمثل بـ «داعش» أو غيره.

قلّصت الديبلوماسيتان المصرية والليبية مطالبهما وسعتا وراء مشروع قرار يرفع حظر التسلح عن الجيش الليبي ليقوم هو بمهمة مكافحة «داعش». انما حتى ذلك الطلب لاقى مقاومة الولايات المتحدة والدول الأوروبية على أساس: أولاً، ان التجربة أثبتت ان الحكومة الليبية والجيش الليبي في غاية الضعف والتشتت لدرجة عدم ضمان بقاء الأسلحة في حوزتهما. وثانياً، عارضت هذه الدول تعريف كل من ليسوا في صفوف الحكومة والبرلمان الموالي لها انما يُصنَّفون «ارهابيين».

قطر تحفظت أساساً على الطروحات المصرية والليبية على أساس تمسكها بالحل السياسي، لكن تفسيرات الآخرين لموقفها صبّت في خانة رفض تصنيف «الاخوان المسلمين» في ليبيا «ارهابيين»، أما تركيا المعروفة بدعمها لـ «الاخوان» فإنها كانت أوضح في رفضها القاطع لأي تدخل عسكري في ليبيا وأي محاولة من قبل الحكومة الليبية للتواصل معها كما أكد وزير الخارجية الليبي في حديثه الى «الحياة».

الديبلوماسيتان المصرية والليبية المدعومتان سعودياً واماراتياً شددتا على ضرورة محاربة «داعش»، سواء بصلاحية من مجلس الأمن تدعم التدخل العسكري، أو بصلاحية عربية، أو من دون صلاحية. فـ «داعش» يشكل لهذه الدول تهديداً وجودياً، ومصر عازمة على الاستمرار في غاراتها وتوسيع تدخلها العسكري تلبية لطلب الحكومة الليبية وطبقاً لحقها بالدفاع عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، كما أوضح وزير خارجية مصر في حديثه الى «الحياة» الذي نشر أمس.

الوزيران المصري والليبي كانا واضحين داخل قاعة مجلس الأمن وخارجها في تحذيرهما من التلكؤ الدولي وانعكاساته عملياً على أوروبا وليس فقط في الساحة الأفريقية، حيث يتباهى امثال «بوكو حرام» بقدرتهم على الإرهاب القاطع في ظل انحسار الاستعداد الدولي لمواجهة جدية معهم. لكن هذا التحذير لم يؤدّ الى تغيير جذري في المواقف الأوروبية.

الغربيون يسرعون الى القول ان ما يعارضونه ليس تكثيف الحرب على «داعش» ولا انشاء تكتل أو تحالف جديد ضد «داعش» في ليبيا وإنما يعارضون تعزيز انماط الاقصاء لـ «الاخوان المسلمين» وغيرهم تحت ذريعة محاربة الارهاب بتسمياته المختلفة. يقولون ان حرصهم على العملية السياسية يجعلهم يعارضون الصلاحية العسكرية للتدخل.

الملفت هو ان روسيا والصين، كما أكد وزير الخارجية الليبي، أكثر تجاوباً مع الطرح الليبي – المصري من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. هل يمثّل ذلك الموقف الرد الروسي – الصيني على ما تعتبره الدولتان استغلالاً غربياً لقرار مجلس الأمن الذي تحدث عن اجراءات في ليبيا تمثلت بعمليات عسكرية لحلف «الناتو» لم توافقا عليها؟ أم ان روسيا والصين تشمتان مما أدى اليه تدخل «الناتو» العسكري في ليبيا من دولة فاشلة وساحة مفتوحة على ارهاب «داعش» وأمثاله.

السؤال الأهم هو لماذا تتباطأ الولايات المتحدة وبريطانيا في تناول المسألة الليبية، وكذلك المسألة اليمنية، لدرجة تحول البلدين الى مشروع حروب أهلية مروعة؟

قد يقال ان التباطؤ في اليمن عائد جزئياً الى أهمية ايران في الاعتبارات الأميركية والبريطانية والألمانية والفرنسية في مرحلة حاسمة من المفاوضات النووية بين ايران وهذه الدول زائد الصين وروسيا. فهذه الدول غضّت النظر عمداً عن الدعم الإيراني للحوثيين في اليمن، وروسيا عارضت اصدار مواقف عن مجلس الأمن تحدد مسؤولية الحوثيين عمّا آلت اليه الأمور نتيجة انقلابهم على الشرعية اليمنية.

اليمن مشروع جاهز لإنماء «القاعدة» التي تمثّل قوة مهمة في موازين القوى مع الحوثيين. ورغم ذلك، لا يتصدر اليمن الأولوية لدى الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن والمسؤولة عن الأمن والسلم الدوليين. فالاستنزاف بات سياسة مقبولة في المقابر العربية الممتدة من سورية الى العراق الى اليمن الى ليبيا وهذا بقرارات دولية وإقليمية ومحلية على السواء.

ليبيا مرشّحة اليوم لتكون دولة فاشلة بكل معنى الكلمة يمتلكها قلة من الإرهابيين قادرة على بسط سلطتها لأن ليبيا دولة تناست الأسرة الدولية حاجتها الى بناء مؤسسات الدولة.

مصر غير قادرة بمفردها على تولي مهام ترميم ليبيا لدرجة تمكينها من التعافي. فالمهمة ضخمة ومكلفة وصعبة ومعقدة. مصر قادرة، ربما، على سحق «داعش» عسكرياً في ليبيا. لكن المشكلة ان مصر التي تحتاج الى التركيز على نفسها في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخها قد تكون مشروعاً جاهزاً للتورط في ليبيا بأكثر من قدراتها.

من هو ذلك الـ «داعش» الذي يستدرج مصر الى التورط لإضعافها؟ وهل ستكون مصر يقظة الى تداعيات تورطها في ليبيا أو انها ستسير في خطى مرسومة لها على أيدي «داعش» وأشباح دولية؟

مهم جداً لمصر ألاّ تتسرّع وان تستعيد سمعة ديبلوماسيتها البارعة. فمصر مهمة ليس فقط لشعبها وإنما هي في غاية الأهمية للوزن العربي في موازين القوى الاقليمية والدولية. وفي هذه الحقبة الدقيقة على مصر ممارسة براعتها الديبلوماسية والقيادية.