Site icon IMLebanon

إهدن وبشري .. ووصايا مار مارون

كان الوقت يقترب من الفجر. بصيص من ضوء خافت يتسلل من الخارج. دون مقدمات راح الصوت ينسج في أذني الرهبة والتهيب والخجل الكبير. «تستعد للذهاب إلى الإحتفال الحزين. لا تندب واقعك يا هذا. تيقن ان مشكلة الموارنة تكمن في ذاتهم. هم ليست لديهم مشكلة مع المسلمين. ولا مع المسيحيين الغربيين. ومن قال لك أن لديهم مشكلة مع المسيحيين الشرقيين؟ لست أندم على حملهم إسمي. لكن يشقيني كثيراً أن يتناسوا…». 

رحت أتصبب عرقاً. «إنربط» لساني. عجزت عن مناداة أهل بيتي. أمسك بيدي وقال: «أنت عاقوري. لا تخف. يفترض بك أن تدرك ان علاقات ودّ جمعت ما بين اللبنانيين وجبلهم. فأحبّوه وأخذوا عنه، لصعوبة طرقه وعلوّ قممه وعمق أوديته، قوّة الإرادة وبُعد الآفاق وحبّ الإستقلال والحرية. وكان البحر قد وسّع آفاقهم. فانفتحوا على كلّ إنسان وعلى كلّ فكر. كانوا مضيافين، أسخياء وأصحاب همّة. يفتحون بيوتهم في وجه الغريب والمعوز. وكانوا ينجدون مَن كان بحاجة إلى نجدتهم».

إستسلمت للواقعة. كانت دقات قلبي تتسارع. كاد قلبي يخرج من قفصه حين تراءى لي يتطلع إلى المدى البعيد. إستدرك قائلا:« هذه الحرّية هي التي أتاحت أمام اللبنانيين سبل تأدية خدمات جليلة للعالم، منذ العصور القديمة. اكتشفوا الحروف الهجائية. وكانوا روّاداً في الفلسفة والتشريع والتجارة. وكانوا أوّل من آمنوا بالإله الواحد. أما أبنائي لاحقاً، فكانوا كالبوتقة واحداً. ساروا طويلاً على مثل هذه الدرب. عاشوا الخوف والعوز وعرفوا الاستشهاد. تشاركوا، فتجلّى في إيمانهم وفي اتحادهم ما حقّقه المسيحيون الأوّلون في كنيسة أورشليم، كنيسة تُنبت قدّيسين على مدى الأجيال، ولا تملّ».

وقبل أن أحاول فرك عيني، سألني: «هل زرت إهدن مؤخراً»؟ لست أدري إذا ما كنت هممت بالإجابة أم لا، وهو لم ينتظرني بأي حال. قال:« لو زرتها لشعرتَ كأنك تعايش البطريرك يوحنا مخلوف الذي لقِّب بالقدّيس لتقواه الخارقة، والبطريرك جرجس عميره الذي قال عنه وعن أمثاله أحد السيّاح الفرنج: «عصيّهم من خشب أما هم فمن ذهب «، والبطريرك اسطفان الدويهي الذي بدأ حياته الكهنوتية بتعليم الأولاد في أحد بيوت إهدن قبل أن يتسلم قيادة الطائفة ويرعاها برصانة وغيرة ومحبة، فتعتريكَ الرهبة وتعرف أنكَ وطئت أرضاً مقدسة. فلو طلبت من إهدني أن يساعدكَ في أمر، أيّاً كان هذا الإهدني، وأيّاً كان هذا الأمر، لهبّ لنجدتكَ هازئاً بالعقوبات، كأنّ الأمر هو أمره، فتتعجب لهذه النخوة».

وكمن يسرد تاريخاً، مرّت أمامي تلقائياً صورة الإهدنيين يوم حملوا السلاح ووقفوا في وجه جيوش المماليك في سنة 1283. ويوم هجموا على اليعاقبة الذين تعشّشوا في الجبّة فطردوهم منها سنة 1488. ويوم عاهدوا سيّدة الحصن أنهم يدافعون عن دين آبائهم حتى الموت بعد هجوم أهل الضنية عليهم سنة 1489. ويوم هبّوا عن بكرة أبيهم ضدّ تعديات بيت حمادة سنة 1759، فأبعدوهم عن الجبة. ويوم وقف يوسف بك كرم ضدّ العثمانيين يطالب بالحرية والكرامة.

في غمرة هذه الصور، تيقنت أن إهدن هي أكبر من البطريرك يوحنا مخلوف، وأكبر من البطريرك جرجس عميره، وأكبر من البطريرك اسطفان الدويهي، وأكبر من يوسف بك كرم. إنها رعيّة مارونية أصيلة. هي حفيدة مار مارون.

لم يترك لي الصوت سانحة لأتبين الحلم من الواقع. كان قد أسرني مجدداً سائلا: « هل زرتَ بشري مؤخراً؟ لو فعلت يا هذا، لتذكّرتَ حكم المقدّمين. وتذكّرتَ ما قاله البطريرك اسطفان الدويهي، أن البطريرك يوحنا الجاجي في عهد المماليك، وبالتحديد في سنة 1440، أخلى دير ميفوق وانتقل إلى جبة بشري تحت حماية المقدّم يعقوب البشراني».

وأكمل:« لو فعلت، كانت لتمرّ أمامكَ سلسلة البطاركة، فتعدّ منهم أربعةً وعشرين بطريركاً عاشوا في وادي قنّوبين، وكانوا تحت حماية مدينة المقدّمين. فتشعر أنكَ أنتَ أيضاً بأمان، وتعرف أن القوة التي وفّرت الحماية للبطاركة، هي ذاتها التي قادت جبران خليل جبران، ابن بشرّي، إلى أن يحمل الروح المشرقية إلى العالم، وهي هي التي حملت البطريرك أنطون عريضة، وهو ابن بشرّي أيضاً، عندما كان لا يزال مطراناً لأبرشية طرابلس، على أن يرهن صليبه الذهبي خلال الحرب العالمية الأولى، ليُطعم الجائعين مسلمين ومسيحيين. ولتيقنت ان بشري كما إهدن وكما العاقورة بلدتك، كما تنّورين وحصرون والحدث، كما حدشيت وإهمج وجاج ومشمش ودير القمر وجزّين، كما كلّ قرية مارونية، لطالما كانت واحات إيمان ورجاء ومحبة».

بين هذه الأمواج من الترددات التي امتزج بها اليقين بالخيال، رحت أتعرف بالفعل على ما يمكن أن يشدّني إلى بشرّي، إلى تلك القوة التي تنقل الواحد من غربته لتدفعه نحو الآخرين والعمل معهم على أساس سليم، وهي القوة الرعائية التي تقتل كلّ عداوة وتجعل الكثيرين واحداً. فبشرّي هي أيضاً حفيدة مار مارون.

لم يترك الصوت ثانية ترتاح معها قدسية وتيرته، أو أرتاح أنا. قال: «تتأهب للذهاب إلى الإحتفال الحزين؟ أنا لست نادماً على حملهم إسمي. لكن يشقيني كثيراً أن يتناسوا… فعندما ركب الغرورُ السياسةَ، طمعت في الإنقلاب على تلك القيم والمواثيق والعهود التاريخية، أو رغبت في امتطائها والإلتفاف عليها وتشويه معانيها، فانهار البناء. هكذا وصل الموارنة إلى ما وصلوا إليه. كثرت الشرور في صفوفهم. فكان منهم الغنيّ الذي يتعدّى على حقوق الفقير، والمتسلّط الذي يأكل حقّ الأرملة والمسكين واليتيم، والدائن الذي يستغلّ ظروف مدينه، فيأخذ ماله أربعة أضعاف. وكانت الثروات التي تتكدّس بين فئة قليلة، بينما يشكو القسم الأكبر من الناس العوز والحرمان. تعاظمت الشوائب في حياتهم المسيحية، وعملت شؤون الدنيا في نفوسهم، فضعفوا وتفرّقوا. بات مجدهم فانياً عندما تضعضع إيمانهم، فحلّت الإنحرافات والضغائن، وغرقوا في القشور وتقاتلوا. كان الموارنة أصحاب رسالة فأصبحوا مثل سائر الناس».

وعلى سبيل الوصية سمعته يقول بغصة:« إذهب إلى احتفالك أيها العاقوري، واعرف إن ما يحتاج إليه الموارنة، هو أن يسترجعوا، رجال دين ودنيا، الروح الذي كان يرفرف فوقهم عندما كانوا يعيشون في يانوح وميفوق ووادي قنّوبين… لا يستقوون بحسابات ذاتية أو فئوية، بل يتساوون بالإيمان والرجاء والمحبة. لا يتميّز أحدهم عن الآخر، ولا يدّعي كلٌّ منهم أن خياراته هي المنجّية». 

وختم قبل أن تعود إليّ يقظة الواقع الأليم: «وإلى كل سائل لك عما يفتقد صاحب العيد أيها العاقوري في هذا اليوم بالذات، قل لهم: كل ما يليق بإنسان لبنان وبعراقة تراثاته. وطن يليق باللبنانيين وتاريخهم وقيمهم، ويجسّد بالفعل تلك التجربة الإنسانية الفريدة. وقل لهم وحدة الموارنة. هكذا كانت رسالتهم عبر الأجيال. وهكذا وجب أن تبقى. أن يكونوا شهوداً للمسيح».

() رؤية افتراضية مستوحاة من كتاب» وصيتي الى الموارنة» لحافظ أسرار بكركي طوال أربعة وثلاثين عاماً الخوارأسقف ميشال العويط.