IMLebanon

«أيخمان» في صيدنايا

النظام الفئوي الدموي في سوريا يتقن ببرودة لامتناهية نوعين من «الصمود». الصمود الأول هو تكديس إعلانات «الإحتفاظ بحق الردّ» كل مرّة أغارت فيها إسرائيل على أهداف لـ «حزب الله» في الأراضي السورية. والصمود الثاني هو النفي الفوريّ لأي تهمة توجهها جهات حكومية أو غير حكومية غربية لهذا النظام بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو استخدام أسلحة وغازات محظورة. النظام غير معني بالردّ على الدليل بدليل، أو على الحجة بالحجة. «قوّته» في هذا المجال في نفيه المباشر والدائم لكل ما يُتهم به. أمّا حلفاء هذا النظام، أو المبررون لاستمراره شرقاً وغرباً، يميناً ويساراً، فيبدأون دفاعيتهم عنه على الدوام بعبارات من قبيل «نحن نعرف أنه نظام لا يراعي حقوق الإنسان ولكن»، «نحن نعرف أنّه نظام ديكتاتوري ولكن».. بعد هذه الـ «ولكن» تجري رأساً تبرئته، جهاراً أو ضمنياً، من أي فظاعات هو متهم بارتكابها. هو بالنسبة إليهم نظام ديكتاتوري «عاديّ»، ومجرم «عادي»، وأي اتهام له بأنّه يتجاوز «العاديّة» في ديكتاتوريته أو إجرامه هو مردود حكماً، ويمسّ السيادة السورية!!

لكن النظام السوري ليس نظاماً ديكتاتورياً عاديّاً، ولا إجرامه هو إرهاب دولة عاديّ. صحيح أن معظم بلدان العالم الثالث لا تزال تتعثّر في دروب التحوّل نحو الأنظمة التمثيلية التعددية والتزام حقوق الإنسان واحترام الحريات العامة والخاصة، لكن هناك مجموعة ضئيلة جدّاً من الأنظمة يمكن أن يُقارَن النظام السوريّ بها، وحتى ضمن هذه المجموعة فإنّه يحتل الريادة الإجرامية الدموية اليوم من دون «منافسة» تُذكر.

هو نظام لم يصب يوماً بـ «الوهم» الذي قد يركب أنظمة سلطوية وأخرى شمولية بأنّها صارت «محبوبة» من مجتمعها بعد أن أعادت هندسة هذا المجتمع قسراً وعنوة وبالحديد والنار. يعي بأنّه نظام مكروه، مكروه لأنه نمط استعمار داخلي. بل أنّه نظام اعتبر أن قوته على مجتمعه ليست فقط في ترهيب هذا المجتمع، وإنّما في الحفاظ على الكراهية كـ «عقد اجتماعي بالمقلوب» بينه وبين هذا المجتمع. فمن دون الحفاظ على هذه الكراهية يمكن لجيش النظام أن يتخلف عن وظيفته القمعية مثلاً، وأن «تنهار» معنوياته القتالية ضد السوريين. لم يخف النظام من أن يستخدم كامل عدته القمعية ضدّ ثورة السوريين لأنّه واثق بشعوره وشعورهم، واثق بأنّه نظام الكراهية المطلقة. يريد هذا النظام من الناس أن تكرهه، ليس فقط الخارجين والمنتفضين عليه، بل حتى المهادنين له أو الموالين له، من خارج «النخاع الشوكي» للنظام. حتى في ولائهم له يريدهم أن يكرهوه وليس فقط أن يهابوه أو يخشوه. ليس النظام «غير عادي» فقط في معدل قمعه أو في معدّل دمويته. هو نظام «غير عادي» لأنه يقيم معادلة إستمرارية في ما يتجاوز إشكالية «الترغيب والترهيب»، وفي ما يتجاوز منطق «فرّق تسد» بين السوريين. إنّه نظام يستمد من البنية العامة للكراهية قوة شحنه اليومية. واجب السوري أن يكره في قرارة نفسه هذا النظام، بالنسبة إلى النظام نفسه، وأن يبقي هذه الكراهية في نفسه. وواجب النظام، بالنسبة إلى النظام أيضاً، أن يبحث عن أصغر ذرة كراهية في وجدان أي سوري، أو على لسانه أو في عينيه، ويستأصلها. هذه المعادلة لن تجد طريقها لتناقش لا في آستانة ولا في جنيف، لكن، طالما مناقشتها ممتنعة طالما الخروج من الكابوس مؤجل.

غريب أمر هذا النظام مع مجرمي الحرب النازيين الذين عمل على إيوائهم. ليس غريباً تماماً إذا ما وضعنا بعين الحسبان أنه نظام اشتغل لعقود كمقاول في الارهاب. يحمي مجموعات ويسلّم أخرى. لكن غريب أنه، في علاقته مع مجرمي الحرب النازيين، وكبار مهندسي الإبادة النازية، كان يطلب منهم أيضاً خبرات لاستخدامها داخلياً. وهذا حصل حتى قبل استيلاء آل الأسد على السلطة. فالنازي والتر راوف لعب دوراً مهماً في تزويد أقبية التعذيب السورية بالخبرات في الستينيات، ثم حاول التملص من التزاماته تجاه النظام السوري و«تقاعد»، حبسه النظام ثم نفاه.

أما الويس برونر فحالة مختلفة. برونر هو الساعد الأيمن لأدولف أيخمان أحد أهم مهندسي الإبادة النازية لليهود في شرق أوروبا. وجوده في دمشق كان برعاية شخصية من حافظ الأسد، ليس لأن الأسد يهمه تمجيد جرائم النازية، بل لأنه يهمه خبرات برونر في طريقة تسيير معسكرات الاعتقال. ليس هناك ما يقارن في كل التاريخ العربي المعاصر بمعسكرات الاعتقال الأسدية. في الثمانينيات كان صدام حسين أكثر دموية من حافظ الأسد مع كل دموية الأخير، لكن في مجال معسكرات الاعتقال كان حافظ الأسد متفوقاً عليه بأشواط. معسكرات الاعتقال في سوريا تخدم الهدف الأساسي: صون الكراهية بين النظام والمجتمع، هذا النظام لا يعمل على محو هذه الكراهية، هي حاجة حيوية بالنسبة إليه. لا هو يستطيع الحفاظ على نخاعه الشوكي الفئوي كنظام من دونها، ولا هو يستطيع أن يواصل حربه الأهلية التي كان يريدها أن تبقى من جانب واحد من دونها. هذا فارق أساسي أيضاً مع نظام صدام حسين. المثال الأعلى لصدام حسين بقي الاستبداد الشرقي. أما المثال الأعلى لآل الأسد فيتجاوز الاستبداد الشرقي، إلى طلب الحرب الدائمة مع المجتمع السوري. من دون هذه الحرب الدائمة يمكن أن تفتر همّة النظام، أن يتهدّم، أن لا يعود جيشه قابلاً لإطلاق النار على الناس، وأن يصير جلاوزته خائفين من أن يحقق معهم على فظاعاتهم. هو نظام لا يعتبر أنه «يخسر شيئاً» اذا خرجت فظاعاته الى العلن. يكفيه حينها أن ينكرها مباشرة، من دون بذل أي جهد لإرفاق نفيه لها بأي تفسير مرفق بالحيثيات والمعطيات الملموسة.

مات النمساوي المولد، السفاح النازي، الويس برونر في دمشق. ثمة من يعتقد انه مات في نهايات حكم حافظ الأسد. ثمة من يذهب الى انه مات قبل انفجار الصراع الحالي على خلفية الثورة ثم القمع الدموي لها. لكن برونر خدم هذا النظام كثيراً. زوّده بـ «الخبرة الجرمانية» في معسكرات الاعتقال، ولعب دوراً مهماً في تحقيق غاية النظام من اعتقال عشرات الآلاف من الناس: لا يريد فقط أن «يقمع» هؤلاء، أن يُسكتهم، يريدهم أن يكرهوه. يريدهم أن يكرهوه ثم أن يجدوا في كراهيتهم له تعاسة لهم لا تنتهي، يريدهم أن يندموا على كرههم له من دون أن يكون بمستطاعهم التحرر من هذا الكره، بل أن يزيد فيهم ويزيد.

وصفت حنة أرندت السفاح النازي ادولف أيخمان بأنه يعبّر عن «تفاهة الشرّ». انطلقت تحديداً من تبريره لأفعاله بأنه كان ينفّذ أوامر من هم أعلى منه، بمناقبية. في الحالة السورية، الشرّ من نوع آخر: إنه نظام لا يريد أن يخافه مجتمعه، بل يريد لمجتمعه أن يكرهه، وأن يحبس كل نفر الكره في نفسه، أو يحبس في معسكر اعتقال عُرف الآن أنه مُزوّد بمحرقة للجثث. محرقة لتخليد الكراهية.