مُذْ وجدت البشرية، والصراع قائم بين المادة والروح، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، ومع هذا الامتداد التاريخي الموصول، والمتصارع بين هذه القوى، تبرز حقيقة إنسانية رائدة، نتلمسها على الدوام وهي: ان الفطرة التي فطر الله الناس عليها، إنما هي الأساس الذي تشاد عليه القيّم والمثل العليا في المجتمعات، اما ما نجده من انحراف عن جادة الحق والصواب، وانغماس في الفساد والرذيلة، واتباع للشهوات والهوى والهابط من متع الحياة، فليست سوى أدران تغلّف فطرة الإنسان الخيّرة إلى حين، لا تلبث في النتيجة، وبشيئ من المعالجة الودود والسّمحاء، ان تضمحلّ وتزول، «فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولن تجد لسنّة الله تبديلا».
ومع هذا، فسبيل الإصلاح ليس سهلاً ومعبدّاً. إنه مزروع بالمشقات والعثرات ويحتاج إلى صلابة وثبات وعناد، وبهذا المنهج، يتغلب الإصلاح، على كل عوامل اليأس وتنوع ما يواجهه من تحديات، والا لما كانت رسالة الأنبياء والرسل، ولما كانت دعوات المصلحين وحملة مشعل التنوير والإصلاح.
إن الإصلاح المنشود، والبر المرتجى، محال ان يجدا طريقهما ليعبرا إلى النفوس العاتية، التي طال عليها الأمد، فقست قلوبها، وجمدت عقولها، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، من دون متابعة من المصلحين، وإصرار من دعاة التغيير.
وعيد الأضحى، وهو اسم على مسمى، يُحاكي التضحية بكل معانيها النبيلة، وهذه المعاني لا تعد ولا تحصى، وأساسها الانتصار على الذات من أجل وحدة الكلمة والتضامن والصالح العام، وكيف لا تسود هذه المعاني في هذا العيد، وهو يعقب عبادة من العبادات، وهي الحج إلى بيت الله الحرام، الذي يعتبر موسماً من مواسم الروح، تصارع فيه النفس ماديات الحياة وزخرفها لتنتصر عليها، وعندما ينتصر الإنسان على نفسه، تتيقظ الفضيلة وتسمو الأخلاق، وتسود الاستقامة، وبهذا تزول الشرور وتنهار الفتن.
ويخطئ من يظن، أن أمة من الأمم، يُمكن ان تنهض من دون ركائز قوية من الاخلاق، تهتدي بها في مسيرة حياتها، ولو ذهبنا نستضيء حياة أمم يخطف بريق حضارتها أبصارنا، لوجدنا في تلافيق حياتها، قيماً أخلاقية من تلك القيم التي غرسها الإسلام، وغفل عنها في حياتهم المسلمون،
وأبلغ تعبير عن هذا الواقع، ما قاله الامام الشيخ محمّد عبده وبعد عودته من جولة في أوروبا: «وجدت الإسلام ولم أجد المسلمين».
ذلك ان لدى تلك الدول، الصدق في القول، والجدية في العمل والتناغم في الرأي والتوحد في الهدف، والتنظيم في الخطط و المتابعة في التنفيذ والانتصار على حدّة العواطف وايثاراً للمصلحة العامة، واعتزازاً بقيمة المواطن وبكرامة الوطن.
إن الله سبحانه وتعالى، لحكمة بالغة، شاء أن يكون على الأرض، مجموعات شتى من البشر، تختلف معتقداتها، وتتصارع افكارها وتتنافر أخلاقها، وهو جلّ وعلا، بقدرته تغيير هذه المعادلة، وإيجاد مسلك واحد لمسيرة الحياة البشرية، كما هي مسيرة الكون، حيث الدقة لا قياس عليها والتوازن لا عوج فيه.
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ، لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) .
من هنا، لم يشأ سبحانه ان يجعل الطبيعة البشرية، خاضعة لتلك المعادلات الكونية، لأن هذا المنهج كما قال الله فيه «ولو شاء ربك لجعل النّاس أمة واحدة»، من شأنه أن يؤدي إلى حجر على العقول، وتجميد لمسيرة الحياة، واعدام لحرية الإنسان واختياراته فيها.
هذا هو الاختلاف بين سنن الحياة والمعادلات الكونية، فالمجتمعات البشرية، تقف على مدارج سنن الحياة، رفعة وانخفاضاً بقدر ما تملك من ثروات الروح والفضيلة والاخلاق، وبقدر ما تستهدي بها في حياتها ومعاملاتها ومعاناتها.
تلك الموازين، تقضي بأنه لا علوّ بغير جناح، ولا جناح بغير فضيلة، ولا فضيلة بغير ترفّع عن الاسفاف والظلم والاجحاف.
انها بحق الحصيلة التي ينبغي ان نفوز بها من حقيقة فريضة الحج ورمزيته، والتي تجعل من الأضحى، منعطفاً جديداً في حياتنا، ملؤها التضحية والوفاء، ورصّ الصفوف والاجتماع على كلمة سواء، ومبعثها يكمن في حقيقة هذه الفريضة، وهي الصلة بالله والالتزام بأوامره والانتهاء عن نواهيه، اما رمزية هذه الفريضة وبما توحي إليه مناسكها، فتتجلّى بلباس الاحرام، حيث يتساوى الحجيج بنموذجه الموحّد، كبر شأنهم أم صغر، ارتفع حسبهم أو قلّ، فيكونوا كأسنان المشط، لا فضل لاحدهم على الآخر، إلا بالتقوى وبقدر ما يقدم للناس من صالح الأعمال، وما يترك من أثر طيّب في مجتمعه.
ترى أين نحن اليوم، من هذه الفضائل والقيم، وأين أمتنا من قول الله «كنتم خير أمّة إخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله».
ان واقعنا يظهر الجنوح إلى المنكر، وطمس المعروف ومعالمه، انه واقع التشّبث بالأنا والذّات، وبالخلاف والاختلاف، وليس ثمة محلّ بيننا للكلمة السواء، ولا غرابة ان تشهد أمتنا الفتن وهذا الحجم من الحروب والنزاعات وسفك الدماء، ناهيك عن الفساد، الذي ظهر في البر والبحر، على ايدي السّاسة والزعماء، ومنهم من يدّعي حمل راية الإصلاح.
ولن ندلف على ما يجري بينهم في لبنان، فالقوى السياسية عندنا، لا همّ لها إلا الحديث عن الحقائب الوزارية، هذه سياديّة دسمة، وتلك متواضعة وعادية، لا تسمن ولا تغني الجيوب وتثري الأرصدة، ونستمرّ باللعب على حافة الهاوية، على أنغام ومعزوفة الأحجام والأوزان، وندفع البلد من تعطيل إلى تعطيل، وتشلّ الدولة ومؤسساتها، وليس من سامع أو مجيب، ولو شارف الوطن على الانهيار والافلاس، وكيف لا وقد تمّ إفراغ التضحية من مفاهيمها وهي رفعة البلاد واستقرارها وسعادة العباد، وأبدلناها بالتضحية بالوطن والناس على مذبح الأهواء والشهوات.
————–
المدير العام للأوقاف الإسلامية سابقاً.