Site icon IMLebanon

إما عون وإما فرنجيه …

كلام في السياسة | 

لا ينكسر هذا الرجل. مع أنه لا يلوي أبداً. ولأنه كذلك، تبدو العواصف والصواعق كأنها لا تضربه إلا سلسلة متتالية. ولا يعرف الناس إلا بعد انقضائها. يدركون لاحقاً من بسمته، مثل قوس قزح بعد مطر.

يلومه كثيرون أنه من طينة لا تصلح لسياسات هذا البلد. أحد خصومه الذي تعرف إليه أخيراً، يروي أنه حين يحاوره، يحسه من زمن آخر. يحسب أنه يحادث فارساً، أو مجالداً من أيام التاريخ. من أيام الرجال الذين يلتزمون بكلمة، ويموتون من أجل عهد.

يردد الخصم القديم: حين يسهب في محاورتي حول الاستحقاقات والتحديات ومقدراته في مواجهتها وإمكاناته في تحديها، أتلفت صوب خصره. أكاد أبحث عن سيفه المرصّع، يشهره قسماً أو يغمده مسالماً. ليس الرجل من هذا الزمان، ولا لهذه السياسة. فرجالها معيارهم أن يصلوا. هو معياره أن يقول التاريخ أنه كان على حق. بين المعيارين هامش كبير، فارق، بل فالق يمر منه سياسيون كثر وواصلون أكثر.

في الأسابيع الماضية، كان شقيقه الأصغر على سرير الاحتضار. قلّة من خارج العائلة الضيقة عرفت بالأمر. هو ظل كما هو. يبتسم. يكابر. يعاند. مثل صخرة في ريح. مثل جبل في إعصار. يرمي طرفاته الآسرة لكل زائر. يسمع ويستمع. ينصت ويسكت. مرة تسللت الغصة إلى صوته. كان عائداً لتوه من زيارته الأخيرة له في المستشفى. كأنه أدرك أنه يودّعه. هو من يعشق اللقاءات، تخنقه الوداعات، تبدّل نبرة صوته. كأنه يبتلع ألمه. يمضغه مع مرارات الأيام والأعوام. يهضمه في لحظات. قبل أن تعود عيناه من غيمة الندى إلى بريق المستقبل.

منذ عقود أدرك أن ثمة قدراً له. بل أقدار تلاحقه. اعتاد أن يردد في صباحات تألقه تلك العبارة الفلاحية الشهيرة: «يبدو أن خبزي لا يملح». يعرف غيباً لائحة من أنقذهم من كل موت. الجسدي والمعنوي. الفعلي والسياسي. لم يطلب منهم شيئاً يوماً. ولا جعلهم لحظة يستذكرون أنهم مدينون له بلحظة من عمر في الحياة أو في السياسة.

مع سليمان فرنجيه علاقته ذهبت أبعد. هي علاقة بنوية أبوية فعلاً. ظل يردد طيلة أعوام، كيف التقيا ذات يوم وفداً من المطارنة الموارنة. كان ثمة قطيعة قد وقعت بين بنشعي وبكركي. وكان الوفد الأسقفي يحاول إطلاق مبادرة جديدة تقتضي لقاء جامعاً في الصرح البطريركي. تحدث المطارنة وطرحوا الأسباب الموجبة ومضمون الخطوة المزمعة وخلفياتها موجباتها. قبل أن يلبثوا منصتين، ينتظرون ردي عون وفرنجيه. التفت الجنرال إلى البيك. فبادر الأخير يقول لأصحاب السيادة: «تعرفون أنني على خلاف مع سيد بكركي. غير أن ما يحدد موقفي لا علاقة له بذلك. أنا ألتزم ما يقوله الجنرال. إذا قال لي نذهب أذهب. هذا كل ما لديّ. لا شيء أضيفه».

مرت الأعوام وجاء الاستحقاق الرئاسي. لم يظلم عون فرنجيه لحظة. ولم يغبنه حقه المشروع في الطموح وتأمين المصلحة المشتركة. ولم يغدر فرنجيه بالجنرال قط ولن يفعل أبداً. بل هي السياقات ما فرضت أن يكون الرجلان في سباق واحد. أو هي خيارات أخرى وإرادات آخرين. أحياناً يفرض التاريخ على الناس ما لا يريدون. أحياناً يقع ظلم على بشر لا يكون أي منهم مسؤولاً عنه. ثمة محن تكون شبه آلية. غير أنها هذه بالذات ما يمتحن طبيعة الرجال ومعادن الكبار. حين يعرفون كيف ينزعون ظلمها، كمن ينزع السم بفمه من دون خوف ولا أذى. ففي أزمات كهذه يحك جوهر الأشخاص. وتظهر الحقائق والمبادئ. والرجلان من تلك الطينة.

هكذا من العنق الذي بلغه استحقاق الرئاسة اليوم، ثمة فرص وإيجابيات يمكن استخلاصها. أولها أن يروض المأزق ليصير خطاً أحمر. ليصبح سقفاً لا نزول دونه ولا تنازل تحته ولا تخاذل ولا تفاوض. أن يحول المأزق تسليماً بأن الرئيس لن يكون إلا واحداً من اثنين: إما ميشال عون، وإما سليمان فرنجيه. فتسقط كل الخيارات الأخرى غير المختارة. وتصحح آلية التفكير حتى بشخص الرئيس وصفاته. على قاعدة أن النظام اللبناني كله في أزمة. وأن الاستحقاق فرصة لمعالجتها من دون نسف نظام. وأن المعالجة تقتضي العودة إلى مقتضيات الميثاق. بحيث يكون الرئيس أولاً وأخيراً عنوان شراكة المسيحيين في الدولة والوطن والسلطة والحكم. ثم أن المؤسسات الدستورية نفسها في أزمة أخرى. عنوانها انتقاص شرعية المجلس النيابي الممدّد لنفسه مرتين. وهي أزمة أخرى لا علاج لها إلا بالمداخل التي طرحها عون نفسه: إما انتخابات نيابية وفق قانون ميثاقي عادل تسبق الرئاسة. وإما استطلاع شعبي بأي شكل كان، يزكّي شخص الرئيس الأكثر تمثيلاً لناسه وللشعب. وإما تسوية ميثاقية شاملة لا اجتزاء فيها ولا افتراء. لن يفترق عون عن فرنجيه. فهو لا يعرف الفراقات. كل ما تبقى حسن إدارة. حتى يكون الانتصار.

أمس فقد ميشال عون شقيقاً. يكفيه عزاء أن قلوب الناس له صلاة. وانهم كلهم أبناء لأب الوطن الراهن. وأولهم كما يردد دوماً، سليمان فرنجيه.