قد يكون مبكراً الحديث عن ماهية الاستحقاق الانتخابي المقبل بعد الجولة الأولى من الانتخابات البلدية والاختيارية. فالمؤشرات التي دلّت اليها انتخابات بيروت وزحلة أوحت بكثير من المعطيات الجديدة في انتظار مزيدٍ في المراحل الثلاث المقبلة، وإذا كان انتخاب رئيس جديد للجمهورية شبه مستحيل، فليس سهلاً الحديث عن انتخابات نيابية. فما هي القراءة التي دلّت الى هذه المؤشرات؟
واضح انّ هناك خلافات فاضحة لا يمكن إخفاؤها بسهولة عندما يتناول الحديث الإستحقاقات المقبلة التي يمكن ان تلي الإنتخابات البلدية والإختيارية المستمرة حتى نهاية الشهر الجاري.
فاللبنانيون مقسومون منذ هذه اللحظة حول أولوية انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية او الإنتخابات النيابية كخطوة لا بد منها عند الحديث عن نجاح اللبنانيين في عبور هذا الاستحقاق الانتخابي في ظروف هي المثلى تشجّع على الخطوات المشابهة لها لتجديد الحياة السياسية والأهلية والادارية بعدما حالت ظروف وصفت تارة بأنها أمنية داخلية وتارة أخرى اقليمية ودولية لتجاوز الإستحقاقات المتصلة بإعادة تشكيل السلطة للتمديد للمجلس النيابي، وربما كان التمديد قد انسحب على الإنتخابات البلدية لو لم تتوافر إرادة محلية جزئية وإقليمية ودولية شاملة ضاغطة شجّعت عليها وبارَكتها.
ففي القراءات الأولى التي تلت المرحلة الأولى من العملية الإنتخابية والتي رافقت إعلان نتائجها، تعالت الأصوات المنادية بانتخابات نيابية او رئاسية وبقي معظم اللبنانيين مفروزين بين أصحاب النظريتين ولكلّ منهما ما يكفي من الحجج لتبرير موقفهم من أيّ من هاتين الخطوتين. وهم ماضون على الأرجح بها الى النهاية في خطين متقابلين لن يلتقيا أبداً ما لم يطرأ أي جديد ليس في الحسبان من الآن يحتّم الإقدام على خطوة تقود الى أحد الخيارين.
وحتى لحظة توزيع صناديق الإقتراع على المندوبين المشرفين على العملية الإنتخابية كان هناك من يراهن على تأجيل الخطوة، إمّا لمصلحة شخصية، او اعتقاداً لدى البعض بأنّ الوقت ليس مناسباً لاختبار اللبنانيين في مثل هذا الإستحقاق، واعتقاد آخرين أنّ هناك قوة قاهرة تفرض إلغاء الإستحقاق او تأجيله وانها ما زالت تمتلك حق «الفيتو» مخافة الوصول الى ما لا ترغب به من معادلات جديدة ما زالت في طور التجربة والتقدير.
إلّا انّ حصول الانتخابات بالحد الأدنى من التوافق السياسي والحزبي وبأقل كلفة مالية ظهر جلياً من خلال كل ما رافق العملية الإنتخابية من المال الاعلاني والاعلامي والانتخابي الذي ظهر انه شحيح في كل مظاهر التحضير للعملية الإنتخابية.
ولذلك فقد عبر الإستحقاق بأقل كلفة وفي أجواء أمنية مثالية وإدارية مقبولة وبأقلّ الخسائر السياسية المقدرة، فلم يظهر انّ هناك خاسرين كباراً ولا رابحين أقوياء، وتوزّعت نسبة الأرباح والخسائر بالعدل والقسطاس على الجميع، حتى انّ بعض الذين خسروا مواقعهم لجأوا الى معادلات ترضيهم وتبلسم الجروح وتخفّف من حدة الآلام التي أصابتهم.
وبالتزامن مع رباعية المراحل الإنتخابية، بَدأ البحث في قانون الإنتخاب الجديد وهو ما أضاف الى النقاش ما يؤججه في أولوية خيارَي الانتخابات النيابية او الرئاسية.
فانبرى من يبشّر بانتخابات نيابية مبكرة كما كشف رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي دعا الى البتّ بقانون انتخابي جديد سريعاً ليمهّد الطريق الى تقصير ولاية مجلس النواب الحالي وإجراء الإنتخابات على أساسه لتجديد السلطة وإلّا في حال العكس وانتفاء تبرير ما يؤدي الى التمديد للمجلس مرة أخرى إجراء الإنتخابات النيابية وفق قانون الستين.
ما لم يُشر اليه بري في موقفه الجديد، يقف عند عدم تحديده ايّ موعد لانتخاب الرئيس العتيد للجمهورية، ليس اعتقاداً منه بأنه ليس للخطوة الأولوية، وهو يواظب عبر كتلته النيابية على المشاركة في الحضور الى المجلس النيابي في 39 جلسة متتالية دعا اليها لانتخابه، بل لاقتناع لديه بأنّ الظروف لم تكتمل بعد لإتمام الإستحقاق الرئاسي. ولذلك، فهو يقدم أحياناً منطق «تشريع الضرورة» على ما عداه من مهمات المجلس النيابي وتارة أخرى الإسراع في بتّ القانون الجديد للإنتخابات.
وثمة من يقول انّ بري كان ولا يزال من أوائل المحذّرين من استمرار الشغور الرئاسي، وهو يخشى ليس على وحدة المؤسسات الدستورية وقوتها ودورها فحسب، بل يخاف على مصير الثروات الكبرى المتوافرة عند اللبنانيين ولا سيما منها الثروة النفطية التي علينا الإسراع في استثمارها قبل ان تستنفد إسرائيل سرقتها الجارية لمحتويات المخزون من الحقول المشتركة على الحدود في المياه الإقليمية، بالإضافة الى مخاطر استمرار اللجوء الى خطوات ناقصة ستتسبّب يوماً ما بابتداع مزيد من الأعراف غير الدستورية والخروج على ما تقول به القوانين المرعية الإجراء، وسيكون صعباً العودة اليها في وقت قريب.
وبناء على ما تقدم، هناك من يراهن على دور فرنسي ما للخروج من عنق الإستحقاق الرئاسي ويتوهّم خطوات لا يمكن بلوغها قياساً على الأحجام المؤثرة في تقريرها.
وانّ هذا الرهان ما زال بعيد المنال. وانّ التجارب السابقة شكّلت رسالة واضحة للجميع بأنه ليس في محلّه وانّ العواصم الأخرى التي يمكن ان يكون لها دور فيه معتكفة عن القيام به، كذلك بالنسبة الى ملفات إقليمية ودولية تتجاوزه في حجمه وأهميته، وانّ الأمر متروك للبنانيين وهم عاجزون عن القيام به لألف سبب وسبب لا مجال لذكرها، خصوصاً انّ هناك لبنانيين يعطّلون هذه الخطوة وهم قادرون على ذلك.
وفي النظر الى تساوي القوتين المتحكمتين بالعملية السياسية في البلاد والتي باتت أسيرة نزاع سني ـ شيعي قوي من دون وجود من يحسم بينهما في انتظار القوة الإقليمية والدولية، ظهر انّ القوة المسيحية التي يمكنها ان تقود لعبة التوازنات بين الكتلتين تتجه الى تكوين قواها بمعزل عنهما، وهو ما سيزيد من حال الشرذمة في البلد.
وعندها، سيكون من المؤكد استبعاد انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية، واعتبار الانتخابات النيابية أبعد ممّا يتصوره أحد… وإنّ غداً لناظره قريب.