ليست الحرب السورية السبب الرئيس للخلاف التركي- الروسي، على رغم المواجهة بين حلفاء الطرفين من شمال حلب إلى جنوب دمشق. يقرأ الحاكمون في أنقرة وموسكو التاريخ بشغف لا علاقة له بالسياسة، فرجب طيب أردوغان وقادة حزبه الإسلامي يركّزون على المرحلة العثمانية ويفترضون تجديدها، ما يعني استعادة صلة سياسية مع البيئات الإسلامية الآسيوية في روسيا وجنوبها ووصولاً إلى الصين، وتترافق الاستعادة بالضرورة مع ملفات الخلاف الجيواستراتيجي، وبالتالي السياسي والاقتصادي مع موسكو. أما فلاديمير بوتين فليس مضطراً لانقلاب بقفازات ناعمة على الثورة البلشفية، كما هي حال أردوغان تجاه الأتاتوركية الحاضرة بقوة في بيته وقصره الجمهوري ومعالم المدن، خصوصاً العاصمة أنقرة. وضع بوتين أسهل لأن الاتحاد السوفياتي اكتمل تفكّكه وصارت الثورة البلشفية حكاية تروى، وهو من مكتبه في الكرملين يبدو متخففاً من أخطاء بوريس يلتسن رئيس الصدمة والفوضى اللتين أعقبتا غورباتشوف الملتبس الذي نفخ على أسوار الشيوعية فانهارت.
بوتين هو القيصر وبلا عوائق، في حين أن أردوغان لم يصبح سلطاناً بعد وتفصله عن الخلافة العثمانية الجديدة عقبات داخلية وخارجية، وإن استطاع التمهيد لها بنظام رئاسي.
ولا يستطيع بوتين رؤية تركيا إلا بعين كاترين الثانية وغيرها من القياصرة الذين حاولوا اجتياح المضائق إلى المياه الدافئة فما استطاعوا. هكذا هي تركيا السدّ الذي يمنع الدفء عن روسيا ويعرقل اتصالها بدول المتوسط الذي كان يسمى بحر الحضارات.
تتواجه أنقرة وموسكو في سورية، بواسطة الحلفاء أولاً ثم مباشرة بعد الحضور العسكري الروسي (في سورية أي عند الحدود الجنوبية لتركيا)، وخصوصاً بعد إسقاط الدفاعات التركية طائرة السوخوي وقطع العلاقات بين البلدين.
إما بوتين وإما أردوغان، فالحرب هي بين قائدين ونهجين لأن اشتعالها بين البلدين غير ممكن بل ممنوع روسياً وتركياً ودولياً. وتصريحات القائدين حتى في أسلوبها الإيجابي تؤكد مراوغتهما. تنقل الصحافة التركية عن بوتين قوله إن موسكو ترغب باستئناف العلاقات مع تركيا وتنتظر خطوات ملموسة أبرزها الاعتذار عن إسقاط السوخوي. ويردّ نائب رئيس الحكومة التركي نعمان كورتولموش داعياً إلى الحوار لأن الدولتين لا تحظيان بترف التخلي إحداهما عن الأخرى. ويقترب من الاعتذار من دون تصريح حين يقول: «لو أن الطيران التركي علم أن الطائرة روسية لتصرّف بشكل مختلف». وفي أجواء المراوغة هذه يصدّق المراقبون اتهام أنقرة موسكو بتسليح حزب العمال الكردستاني واتهام موسكو أنقرة بدعم وتسليح إسلاميين داخل الاتحاد الروسي.
لا روسيا القيصرية عائدة ولا تركيا العثمانية، بل يتم استثمار الحنين إليهما لدعم النخبة الحاكمة في البلدين وإضفاء وهج البطولة على قائديهما مع مسحة دينية، فيكون بوتين حامي روسيا المقدسة، وأردوغان المدافع عن الإسلام السياسي، على الأقل في المناطق العثمانية السابقة. لكن «القيصر» و «السلطان» يعانيان، وإن لأسباب مختلفة، مشاكل في الحكم اقتصادية وسياسية، وارتباكاً في العلاقة مع أوروبا والولايات المتحدة، وليس من أفق سوى الواقعية السياسية والتخلي عن توزيع أوهام التاريخ على المواطنين.
لأردوغان… إن من يعجز عن حكم مواطنيه الأكراد ليس مؤهلاً للتأثير الإيجابي في الإسلام التركماني خارج حدود الدولة، وإن التركمان الآسيويين ليسوا الغالبية في الإسلام الآسيوي حتى ينسب أردوغان لنفسه السيطرة عليه كله والضغط بواسطته على روسيا والصين.
ولأردوغان أيضاً إن أفغانستان بدأت ترميم قصر أمان الله خان في كابول كرسالة حنين إلى الملك الذي كان صديقاً لأتاتورك وأراد لبلده نهضة مشابهة لنهضة تركيا الكمالية فأفشله أقاربه البشتون القبائليين ومعهم كالعادة رجال الدين. وفيما ترمّم أفغانستان قصر نهضتها الحديثة المكسورة، يهدم أردوغان ببطء، ولكن بعناد وعزم، قصر الحداثة التركية، على وعد الوهم العثماني.
ولبوتين… إن روسيا محكومة بالضرورة بحاجات شعبها في القرن الحادي والعشرين لا باستعادة عقيمة لعهود القياصرة.