آيلان، استبدل نومه على شاطئ بودروم بموته. إذاً:
اللعنة على هوبز: الحرب هي النظام الطبيعي للمجتمع البشري. فظيع أن يكون هذا القول حقيقياً جداً، وأن تكون الحروب هي أفضل الحلول الكارثية، وان تكون النتيجة، تمجيد القتل العربي وسط هذيان الخسائر.
آيلان، مشى على الماء. خانه الإيمان. قبله مشى المسيح على الماء. ما خانه البحر. البشر ليسوا كالأنبياء. يخضعون لجاذبية القتل، وحتمية الغرق. لا بريء في الحرب حتى الآلهة، والسبب:
«الحرب ترخيص شرعي لقتل أناس لا تعرفهم» (بيار كونيسا) وآيلان لم يكن معروفاً إلا من حضن أمه وساعدي والده الرخوين، ومع ذلك فهو عدو، لأنه ينتمي بالولادة، وبالدم فقط، إلى عائلة وبيئة ومعتقد. ويتعيّن اعتبار الحياة صدفة نادرة، وأن الموت قتلٌ، تصميم وإرادة، الآخر هو عدو؟ حتماً، في زمن ما، إما في ما مضى أو في ما سيأتي.
آيلان، في صورته نائماً على الشاطئ، وحيداً مع الرمل، جمّد العالم في لحظة. تحوّل العالم إلى مرآة تدمع. ذهول أصاب الضمائر. استيقظت حمية الكلام. فاضت انفعالاً في عواصم الغرب. اجترحت قمماً واجتماعات. هناك شعب كامل في صورة آيلان. شعب مؤلف من أرقام. آيلان، أعاد لهذه الجموع الهائمة اسمها الطبيعي. ونصب في وحشة القتل سؤالاً مخزياً: «مَن منكم يا ناس، ما زال يبحث عن وطن؟». أو «مَن منكم يا شعب سوريا، لا يحلم بمنفى؟». وأن العبور من الوطن المستحيل إلى المنفى الضئيل، يمرّ بالماء، والماء لا يصنع المعجزات إلا مع الأنبياء. والأنبياء بحاجة إلى براءة ذمة من غير أتباعهم.
إذاً: «مَن ما زال يبحث عن وطن؟ سوريا الكبرى أفرغت من كل ما فيها. ما بقي منها، أيام للموت الشنيع وللقتل الفظيع وللتدمير المريع. ليس في الأفق نذير نهاية ما. الحرب في أولها بعد خمسة أعوام. فماذا يُقال لآيلان؟ ليس لدى العرب شيء يقولونه. لا يعدون بشيء. هم الوعيد فقط. الخريطة العربية ملك لنسل الآلهة والأنبياء والآيات والقديسين وعقائد الدين والملة والطائفة والمذهب، ورتب القادة من ملوك ورؤساء وجنرالات وعساكر وأصحاب عمائم. الخريطة العربية تخضع كل لحظة، لارتكاب وارتكابات مضادة. فلا بريء فيها، غير مَن يشبه آيلان، او يتشبّه به، هارباً إلى قبور جديرة بالاحترام، في ديار اللاعرب الواسعة. المتّهمون ما زالوا على دين القتل. وقبل القتل كانوا يحضّرون للمذبحة.
ممن ننتقم لموت آيلان؟ لا تعداد لقَتَلته، كل مَن شرعن هذا القتال، دفاعاً أم هجوماً، قاتل. منذ البدء، كانت الجريمة، وكان ذلك متوقعاً. حجم العداوة في المجتمعات العربية هائل. شعوب متعادية بأسباب عديدة. الأنظمة الاستبدادية، بأي عقيدة تلبّست، كانت معادية لشعبها، وشعبها معادياً لها، وكثافة العداء، مشحونة بالأحقاد والثأر… للعقائد الدينية السياسية، تاريخ حافل من العداوات مع الأنظمة ومع مجتمعاتها ومع ذاتها. ولقد كانت طلائع الكارثة بيّنة. أفغانستان لم تكن بعيدة. «العرب الأفغان» عادوا إلى «أوطان» تعاديهم ويعادونها… «القاعدة» اعادت الإنسان والمكان، وحددت للعرب مكان إقامة جديداً، أو مقر إقامة إلزامياً وبالقوة. قالت للأمة: «عودي إلى دار الخلافة»، بكل ما في الخلفاء من استعداء وعداوات… قليل منهم مَن مات ولم تكن يداه ملوثتين بدماء المسلمين… «داعش» الأبن الرضيع لـ «القاعدة» تفوّق بعد إرضاعه، فأعلن حربه على العالم… وها هو ماضٍ فيها لإلغاء كل مستقبل.
مَن نحاسب على قتل آيلان؟ حكومات وقيادات، قدّست العقائد ووظفت الأفكار وأمّمت الشعارات، لإقامة دولة الوحدة، بأدوات التفتيت والإلغاء. النجاح مريراً. أمة بادت بين أيدي مَن يدّعي بناءها. وحدة تناثرت، وباتت غباراً. قبضات القادة العرب، منعت العربي أن يكون مواطناً، فكيف تسمح للكردي والأشوري والايزيدي و… أن يظهر حاجته إلى انتماء صغير يحميه من فوضى الانتماءات العابرة؟ لا لوم على كردي أو اشوري أو تركماني، إن احتمى بأقليته. لقد أيقظ نظام القمع العربي، الشعور الأقلوي، والذي تعاظم حتى بلغ الأكثرية. وحروب الهويات مقابر القضايا. وها نحن في القعر.
مَن نحاسب على قتل آيلان؟
إن الدوافع الحقيقية للحرب، هي الجسم الاجتماعي. وفي كل الحروب، كان هناك هامش حيوي للحرب، وفي هذا الهامش، شيء مما قاله نيتشه: «إن مَن يحيا على محاربة عدوه، من مصلحته أن يدَعَه يعيش». لقد أخطأ نيتشه. لا مصلحة للمتقاتلين المتوحّشين في القارة العربية، بأن يعيش الأعداء. لذا، هي حرب إفناء، أو إخضاع نهائي، حرب تحويل المجتمع إلى جحيم دائم، أو إلى نعيم مفترَض لا يقيم فيه أحد.
كل الأفكار انتهت إلى تكوين فصول المقتلة. كل الأنظمة كذلك. كل الفتاوى أيضاً. كل الاجتراحات التكفيرية أيضاً وأيضاً… ليس عندنا بريء واحد، إلا مَن يشبه آيلان. هارباً إلى بلاد الموت الواسعة.
آيلان الذي مات على حافة أوروبا، ساعد مجموعات الضغط الشعبية غير الحكومية، كي تستجيب الحكومات إلى النداء الإنساني: «افتحوا حدودكم». «لا تتركوا المتوسط يبتلع المزيد». «لا تجعلوا البحر مقبرة للسوريين». كانت أوروبا قلعة بلا أبواب. آيلان افتتحها.
إلى آيلان نقول: غفوتك المديدة أيقظت الضمير العالمي. قال لأوروبا، أنتِ ملاذنا، بعدما كنتِ عذاباتنا. لستِ بريئة مما احتملناه. غفوتك قالت لمجلس الأمن: إلى متى تغطّ في نوم ذليل. طفولتك القصيرة، سرقت من العالم لحظة إنسانية. أجبرته على أن يكون آدمياً، وأن يفرض على حكومات أوروبا أن تفتح الأبواب، بعدما أنفقت مئات الملايين، لمطاردة «مراكب الموت»، ولإقامة الأسوار، ولمنع تدفق اللاجئين.
شكراً يا آيلان. غير أنك عجزت عن فتح فجوة صغيرة في جدار دول الخليج، حيث أعداد اللاجئين من السوريين إليها، لا تتعدّى الصفر… هذا عارٌ مزمن، لا جدوى من استنكاره.
أما بعد: أين نبحث غداً عن «سوريا الكبرى».
لا مكان إقامة لها. على ما يبدو، إلا على ضفاف البحار وأرصفة الدول…
ليت لا.