حتى الذكريات ضاعت مع انفجار بيروت
حين دوّى الانفجار الكبير، كانت “تاتا روز” تجلس على كنبتها المفضلة أمام الشاشة، في ذلك البيت العتيق في آخر شارع الجميزة. هنا ولدت وكبرت وأمضت عمراً لم ترضَ أن تتشاركه مع احد. تآلفت مع جدران البيت وتفسخاتها وباتت تعرف كل بلاطة مزعزعة فيه. هنا الرحم الذي حضنها حين خرجت من رحم أمها ولم تقطع يوماً حبل السرّة معه. فجأة تصاعد هدير تلاه صوت مدوّ وصار ما صار. انهار البيت، تساقط، اختفت قناطره و”انهارت” تلك الشرفة الصغيرة المطلة على الشارع، ومعها تسعون عاماً من الذكريات.
تختصر هذه القصة قصص مئات المسنين الذين يعيشون في الأحياء والبيوت البيروتية القديمة التي ما عرفوا غيرها مرتعاً لهم. سلخهم عصف الانفجار عنها، قذف بهم الى المجهول، والمجهول هنا هو كل ما يحدث خارج جدران البيت. وجدوا أنفسهم خارج الحضن الدافئ، صرخوا، ضاعوا، تشتتوا، سكتوا وبكوا…
تيتا روز واحدة من هؤلاء المسنين، قضت عمرها في الجميزة تتنقل بين البيت والمدرسة التي أفنت سنوات شبابها وكهولتها فيها مربية للاجيال. بالفرنسية تحكي كمعظم كبار السن في أحياء بيروت العريقة، تدمر بيتها لكنها رفضت أن تغادره لا لخوف من تهجير قسري او من سرقة لممتلكات رافقتها عمراً بل لأنها تريد خاتمة تليق بها وبعطاءاتها، معززة بين جدران بيتها لا مشرّدة في مأوى غريب. اضطروا لانتزاعها بالقوة حملوها مع كرسيها. غاضبة هي، ناقمة تأسف على عمر بذلته بالعطاء فلم يكافأ إلا بالقهر والذل.
نقمة تيتا روز على الدولة ومسؤوليها تشبه نقمة كل كبار السن في لبنان على دولتهم التي ما التفتت إليهم يوماً، لا بل وضعتهم في مواجهة مصير مجهول تتربص بهم مخاطره من كل جانب. بين مطرقة كورونا وسندان التعويض الضائع ولوعة الانسلاخ عن بيوت هدمها التفجير فوق رؤوسهم يمضي كبارنا آخر ايامهم.
على “الحضيض” يا حكم
عمو جورج رجل في منتصف سبعيناته، يعيش اليوم وحيداً مع زوجته فيما ولداه في الغربة بعيدان عنه ويتمتم بأسى “لا بأولتي ولا بآخرتي… في عز شبابنا حرمتنا الحرب أجمل السنين وفي الآخرة بهدلتنا المصارف”. يضيف “علمت الولدين براتبي المتواضع وكبرتهما لتأتي باخرة إجلاء غريبة وتحملهما مع عائلتيهما الى كندا إبان حرب تموز 2006. بقيتُ هنا، لم اشأ ان أترك وظيفتي واضحّي بتعويضي، لكن آخر العمر اقترب والتعويض الذي حرمني اللحاق بابنائي أراه يتبخر اليوم أمام عيني. الملايين باتت أشبه بملاليم…طار التعويض… واليوم أصلّي ألا اضطر، أو زوجتي، لدخول المستشفى حتى لا نصبح على الحضيض ويتبخّر التعويض. هيدي آخرتنا يلي طلعت أضرب من أولتنا في هذا البلد”.
وكثر كثر من كبارنا مثل عمو جورج او تيتا روز تائهون، يائسون، خائفون وقلقون. صحياً ومادياً ومعنوياً: جائحة تفتك بهم، أزمة مالية خانقة تجتاح جنى العمر ودمار يحيط بهم من كل جانب.
الى وزير الشؤون الاجتماعية السابق بيار أبو عاصي حملنا سؤالهم: كيف تهتم دولتنا بكبارها ومسنيها وماذا تقدم لهم ليعيشوا بكرامة في عمرهم الثالث؟ يجيب: “تقديمات الوزارة محدودة والاهتمام الرسمي بالمسن ينحصر في حجز بعض الأسرّة في دور رعاية متعاقدة مع الوزارة لمن يحتاجها من المسنين فالميزانية لا تسمح بأكثر من ذلك لا سيما وأنها لا تتخطى 1 في المئة من ميزانية الدولة. لا سياسة عامة تطال كل المسنين او معايير صريحة تحدد من يمكنه الاستفادة من تقديمات الوزارة.
في الدول المحترَمة…
هل كل ما يحتاج إليه المسن هو سرير في دار رعاية؟ يؤكد الوزير أن دراسة جدية أجريت، بنشاط مشترك بين وزارة الشؤون الاجتماعية والجامعة اليسوعية، للتعرف على الوضع الصحي لكبار السن في لبنان وبالتالي معرفة ما هي احتياجاتهم الصحية. توضحت الصورة إثر ذلك، لكن لم يتبعها أي سياسة اجتماعية وصحية، فالميزانية مرة جديدة لا تسمح بذلك. وجل ما استطاع الوزير القيام به من أجلهم اثناء فترة توليه الوزارة، هو وضع معايير لدور رعاية المسنين من حيث المبنى وتدريب العاملين والمتابعة المستمرة لتكون هذه الدور أماكن تليق بهؤلاء الذين اعطوا الكثير لا اماكن “زربة” مزرية لهم. اما حلمه فكان تأسيس دار الرعاية النهارية للمسنين كما في الدول المتقدمة مخصصة للرعاية الصحية والترفيه يحظى فيها المسن بنشاطات اجتماعية وثقافية وترفيهية تبقيه في قلب الحياة لا على هامشها.
هو حلم بالطبع، حلم به الوزير في ليلة صيف ربما، فنحن لا نزال بعيدين سنوات ضوئية عن تلك الدول التي ترسل رسائل شكر الى المسن حين يبلغ سن التقاعد لتشكره على ما قدمه لبلده ومجتمعه في سنوات خدمته كما في بلجيكا، او الدول التي ترسل مشرفات إجتماعيات لتتأكد أن المسن قد أغلق نوافذ منزله جيداً وشغل وسائل التبريد في بيته اثناء موجات الحر كما في فرنسا، او تلك التي تخصص له بطاقات مجانية في الصف الاول لحضور كل الحفلات والمهرجانات الترفيهية والثقافية كما في كندا، وحدها العائلة في لبنان تحضن كبير السن وتعتبره بركة ولو باتت بالكاد تستطيع تأمين احتياجاتها واحتياجاته.
بعيداً من الأحلام نسأل: هذه الفئة العمرية التي تحتاج الى الرعاية الصحية الأوسع كيف يتم تأمينها لها في ظل وجود قرابة 80 في المئة ممن هم فوق الـ65 لا معاش تقاعدياً لهم ولا يخضعون لأية جهة ضامنة؟
يجيب الوزير أبو عاصي ان هذه مسؤولية وزارة الصحة وحتى الأمس القريب كانت الوزارة تتكفل بتغطية معظم الحالات الصحية التي لا تخضع لأية جهة ضامنة، لكن الوضع اليوم بات أصعب لأن تسعيرة الوزارة لم تعد متوازية مع متطلبات المستشفيات وكلنا نعلم ما على الدولة من مستحقات تجاه هذه الأخيرة لذا فئة كبيرة من كبار السن باتت فعلاً غير قادرة على دخول المستشفى والحصول على العلاجات الضرورية. وحدها مراكز الرعاية الصحية الأولية والمستوصفات التي تديرها جمعيات أو بلديات في المناطق تشكل سنداً يؤمن لهؤلاء الأدوية التي يحتاجونها لأمراضهم المزمنة مثل الضغط والقلب والسكري.
زاد “كورونا” الطين بلة
وكأن ما يعيشه كبار السن من خوف إثر التفجير الكبير ومن هزائم وخيبات بعد تفاقم الازمة المالية لا يكفيهم ليأتي الكورونا ويضيف الى همومهم هماً أكبر. فهم الفئة الأكثر عرضة للإصابة بمضاعفات الفيروس والأكثر عرضة للوفاة نتيجته. وقد أشار البروفسور أنطوان سركيس الاختصاصي في أمراض القلب والشرايين الى أن التقدم في العمر يشكل عنصراً أساسياً، في ازدياد خطر المضاعفات الناجمة عن الإصابة بفيروس كوفيد-19 ويرتفع معدل الوفاة إلى 8.0% بين مرضى الأمراض القلبية الوعائية الذين تتراوح أعمارهم بين 70 و 79 عاماً و 14.8% بين المرضى فوق سن الثمانين.
ما رأي الاختصاصي في أمراض الشيخوخة الياس اسطفان؟ يجيب: “المسنون هم الأكثر عرضة لكل الأمراض المستجدة ولا سيما الكورونا إذ لا يملكون القدرات العقلية لحماية أنفسهم منها كما لديهم أمراض متداخلة تجعلهم معرضين للتعقيدات الخطرة إذا ما أصيبوا بالكورونا. لكن الأخطر في هذا السياق ان الكورونا يظهر عندهم في شكل مختلف عن الأعراض المتعارف عليها للمرض. فالوقوع على الأرض مثلاً او قلة القابلية على الطعام او حتى الضياع وعدم التركيز كلها عوارض خفية يمكن ان تشير الى وجود الكورونا أكثر من العوارض الكلاسيكية التي قد لا تتواجد مطلقاً لديهم، وقد لا يتنبه المحيطون بهم إليها ويكون المسن بذلك خطراً على نفسه ومصدر عدوى لمن حوله. حتى الفالج الشائع لدى كبار السن يمكن ان يكون من عوارض الكورونا إذ تبين ان الفيروس يتسبب بجلطات في القلب والرأس.
بمعزل عن العوارض الصحية ثمة ناحية دقيقة لا يتنبه لها الكثيرون هي الناحية النفسية للمسنين في الأزمات التي نعيشها. فكبار السن الذين عاشوا الحجر سواء في بيوتهم أو دور الرعاية او الذين انسلخوا عن بيوتهم قسراً تغير روتينهم اليومي كلياً، منع عنهم مشوارهم اليومي كما منعت زيارات الأهل والأقارب، وتغيّر محيطهم المعتاد فشعروا نتيجة ذلك بالخوف من الوحدة وبانهم متروكون، كذلك توقفت زيارات بعض المعالجين الذين يوفرون لهم عنايات صحية يحتاجونها، فتدهورت صحتهم وتأثرت تصرفاتهم وباتوا انطوائيين ومشتتين.
وتبقى الصورة الأشد إيلاماً ما يعانيه المسن الذي يدخل المستشفى نتيجة شعوره بأعراض مرضية من خوف ووحدة وقلق في الساعات الـ 48 التي يعيشها قبل حصوله على نتيجة فحص الكورونا. فهو معزول لا يلقى اي دعم من عائلته بل الكل خائفون منه، قابع في مكان ليس معتاداً ان يكون فيه، قلق من النتيجة. هذا إن لم تتدهور حاله بسرعة إذا كان مصاباً بالفيروس وتصاب رئتاه وتنقطع أنفاسه يبحث عن الهواء ولا يجده، يختنق وحيداً تحت جهاز التنفس. هؤلاء من تجب حمايتهم وإبعاد خطر العدوى عنهم، هؤلاء من يجب ان يكونوا أولوية في كل الجهود التي تبذل للحد من انتشار الفيروس”.
المسنون مثلهم مثل كل ابناء هذا الوطن فقدوا حماستهم وإقبالهم على حياة لم يعد فيها ما يفرحهم.