IMLebanon

زحلة تستعدّ لانتخاب مُطران جديد: تنافس سياسي على عاصمة الكثلكة

 

يحظى انتخاب مطران على رأس أبرشية الفرزل وزحلة والبقاع الغربي باهتمام فاتيكاني ومحلي كبيرين لأنّ من يجلس على هذا الكرسي يُمسك بالقرار الروحي والاجتماعي، ويؤثر في القرار السياسي في عاصمة الكثلكة. من هذا الباب، استشرس فريقا 8 و14 آذار في دعم مُرشحين، كلّ لتنفيذ مصلحته، وفي إطار استخدام الكرسي كسلاح لخدمة المصلحة السياسية: المطران عصام درويش يريد أن يأتي من يُكمل مسيرته. تيار المستقبل يطمح إلى الإتيان بمطران مقرّب إلى خطّه تحضيراً للاستحقاقَين النيابي والبلدي المقبلَين

 

يوم الاثنين المقبل، ينعقد سينودس كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك على مدى أربعة أيام لانتخاب مطارنة جُدد في كلّ من بعلبك ــــ الهرمل، زحلة، اللاذقية، وحلب. الاهتمام سيكون مُركّزاً على هوية مطران زحلة الجديد الذي سيخلف المطران عصام درويش، علماً بأنّ ولاية الأخير انتهت مع تقديمه استقالته في العام الماضي، إلا أنّ تأجيل انعقاد السينودس حال دون تعيين مطران آخر، فبقي في منصبه عاماً إضافياً. وتحظى انتخابات أبرشية زحلة بأهمية لأنّها مركز الثقل الكاثوليكي، ولأن لأبرشية الفرزل وزحلة والبقاع للروم المكليين الكاثوليك أملاكاً وأوقافاً كبيرة، فضلاً عن تأثير مطرانها على القرار الزحلي اجتماعياً وسياسيا.

 

 

ثمة أمثلة تُعطى دائماً لتويثق أهمية هذا الدور، أولها وجود المطران كيرلس مغبغب مع الجنرال غورو في أوتيل القادري عند إعلانه ضمّ الأقضية الأربعة تمهيداً للإعلان عن لبنان الكبير. ثانيها وقوف المطران أغسطينس فرح إلى جانب الأهالي خلال الحرب الأهلية، وفَتحه أبواب المطرانية لهم. ثالثها «أيام العزّ» في عهد المطران أندريه حداد الذي كانت له مواقف سياسية حادّة، وأعاد في عهده بناء المطرانية إلى جانب ملئه الفراغ النيابي آنذاك. كان في نية درويش السير على خُطى حداد، وحظي باستقبال حاشد عند تعيينه في عام 2011، حين أمّت إليه كلّ المدينة وسياسيّوها وفعالياتها. يومها، أقام الاحتفال الأكبر الوزير السابق الياس سكاف، تلاه استقبال من تنظيم الوزير السابق سليم وردة. للمفارقة أنّ سكاف ووردة كانا أول من اختلف معهما درويش. الأول بسبب محاولة المطران إلغاء دوره، فوقعت قطيعة دامت طويلاً، حالت دون دعوة زوجة الوزير الراحل، ميريام سكاف لدرويش إلى دفن زوجها، قبل أن يتوسط البعض بينهما فتوافق على حضوره. أما مع وردة، فتمّت القطيعة بسبب مستشفى تلّ شيحا، الذي يُعدّ وردة عضواً مؤسّساً فيه، ويعتبر أنّ المطران آثر عزله وتعيين لجنة جديدة على المستشفى، لـ«السيطرة عليه». وكَرّت بعدها سبحة خلافات المطران مع كلّ القوى والأحزاب الحاضرة في زحلة، فاختار أن يكون طرفاً منحازاً في المعارك البلدية والسياسية، من عزل المدير العام للتعاونيات غلوريا أبو زيد، إلى دعم أسعد زغيب في البلدية ضد لائحة الكتلة الشعبية، وعمله في انتخابات عام 2018 النيابية ضد كلّ من نقولا فتوش وميريام سكاف، وصولاً إلى إحداث انشقاق في المجلس الكاثوليكي الأعلى والمساهمة في تعليق عمله وتأجيل انتخابات نائب الرئيس.

ساهمت هذه المعارك في استنزاف جهود المطرانية، فكانت 10 سنوات «عجاف» على حدّ قول أحد الآباء، بسبب «غياب الإصلاحات ومراكمة المطران درويش عداوات في كل الاتجاهات». هكذا، «انحدرت المطرانية من مرجعية إلى شركة تُعاني روحياً واجتماعياً، والأهمّ أنّ الكنيسة كمؤسسة غائبة عن خدمة رعيتها في أسوأ مرحلة يمرّ بها لبنان». ويضيف أحد الآباء أنّه في الأصل «ليست العبرة في طريقة وصول المطران، فكلّ من يصل يُفترض أن يبدأ بنجاح، وبعدها إما يكون قيمة مضافة للكرسي أو ينتقص منه».

 

انتخاب المطران يتمّ في اجتماع سيعقده السينودس ولا يصوّت فيه سوى المطارنة

 

 

منذ عامين، بعثت روما مراقباً مالياً إلى المطرانية للتدقيق في الحسابات المالية، «لكن لأنها مطرانية زحلة، قرّر الفاتيكان لململة الأمر وخصوصاً أنه لم يكن يتبقّى من الولاية سوى القليل»، وفق ما يؤكد أحد الفاعلين في المجلس الأعلى للروم الكاثوليك، ويرأسه درويش نفسه. كلّ ذلك أدّى إلى افتتاح المطران نهاية الشهر الماضي الأقسام المستحدثة في مطرانية سيدة النجاة من المتحف البيزنطي للأيقونات، إلى حديقة الأساقفة والمكتبة، خلال احتفالية أقيمت له بمناسبة اليوبيل الكهنوتي الذهبي واليوبيل الأسقفي الفضّي، بحضور بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق يوسف العبسي، وغياب كلّ فعاليات زحلة ونوابها الكاثوليك، باستثناء الوزير السابق سليم جريصاتي بصفته مُمثّل الرئيس ميشال عون، الذي تكفّل برعاية الاحتفال… حتى إنّ رئيس بلدية المدينة، أسعد زغيب، المقرّب من درويش قاطع المناسبة.

 

3 أبرشيات تحت سيطرة «المستقبل»؟

ثمة خلاف مستجدّ اليوم ــــ قبيل رحيل درويش ــــ يكمن في دعمه مطران كندا إبراهيم إبراهيم لخلافته، أي السعي لنقله من مطرانية كندا إلى مطرانية زحلة. انتشار الخبر في الكنيسة، أثار امتعاض بعض الرهبان والخوارنة. فتعيين مطرانٍ من «خارجهم» على رأس الأبرشية، يعتبرونه «قتلاً» لطموحهم بتتويج مسيرتهم بالوصول إلى رأس الأبرشية. وبحسب الوزير السابق سليم وردة، «العمل على تعيين مطران ليرأس الكنيسة يُسيء إلى المطران نفسه. فهذا مخالفٌ للقانون، من باب أنّ المطران الناجح في أبرشيته يجب أن يبقى في مركزه، رغم عدم معرفتي بإبراهيم وبالتالي لا يصحّ لي تقييمه. وعلمت أنّ دوائر القرار في الفاتيكان أيضاً غير مؤيدة لنقل المطارنة من أبرشية إلى أخرى». ويرى وردة أنّ تعيين مطران «رسالة إلى كلّ الخوارنة في الرهبانيات وخارجها بأنهم لا يستحقون التعيين، مهما كانت سيرتهم جيدة، وممنوع إعطاؤهم فسحة أمل». أما سبب مقاطعته لاحتفالية درويش، فيردّها وردة إلى عدم تلقّيه أي دعوة، وقد وُجّهت فقط إلى جريصاتي، عدا عن أنّه «لا علاقة لي مع درويش، ولي الفخر بأنّني ممّن سعوا إلى تركه الأبرشية».

سليم وردة ورئيس البلدية أسعد زغيب ونائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي (الأخير أرثوذكسي، لكنه يتكفّل اليوم بمتابعة الملف المسيحي في تيار المستقبل) ومعهم مطران صيدا إيلي حدّاد، يدعمون راهباً مخلّصياً يدعى ميلاد الجاويش ويخدم في دار العناية الصالحة في صيدا. مسعى تيار المستقبل هنا هو السيطرة على أبرشية زحلة (وخصوصاً أنها تشمل البقاع الغربي أيضاً)، كما يسيطر «المستقبل» على أبرشيتَي صيدا وصور (فحداد هو مطران أصيل في صيدا، وعٌيّن في بداية العام مدبّراً رسولياً على أبرشية صور). تتقاطع مصلحة المطران حداد وتيار المستقبل هنا، فالأول عبر سعيه السيطرة على ثلاث أبرشيات (إذا انتخب الجاويش مطراناً) يكون قد ربح معركة استباقية نيابةً عن تيار المستقبل ضد بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق يوسف العبسي، عبر الضغط عليه ودفعه إلى الاستقالة، فيُستبدل بحداد.

 

أنهى المطران درويش عهده بمجموعة خلافات سياسية واجتماعية وَسمت سنواته العشر

 

 

في مقابل الدعم لميلاد جاويش، يدعم الفريق الآخر المُتمثّل بالبطريرك العبسي والمطران درويش وجريصاتي، نقل المطران إبراهيم إبراهيم من كندا إلى زحلة. ينفي المطران درويش لـ«الأخبار» دعمه لأي طرف، مؤكّداً أنّه «لا يوجد ترشيحات مسبقة، بل كل واحد يُدلي بصوته عندما ينعقد السينودس، من دون أي تأثير على المطارنة». من جهته، يؤكّد جريصاتي في حديثه إلى «الأخبار» أن لا علاقة له كـ«علماني» في هذه الانتخابات، «الأمر يعود للسينودس حصراً. إن استشارني أحد أحيله إلى البطريرك العبسي والمطران درويش». أما في شأن ما يُقال عن دعوته إلى تكريم درويش فقط، بما يُعدّ بمثابة رسالة سياسية، يجيب جريصاتي بأنّ الدعوة كانت عامة «والبطريرك طلب أن تكون برعاية رئيس الجمهورية، الذي طلب مني أن أُمثّله في الاحتفال والافتتاح. وأنا وقفت على الخواء السياسي الكاثوليكي في زحلة، نهار عرفت أن المدينة، بالتمثيل السياسي الكاثوليكي، غائبة».

الهدف الضمني المُشترك للفريقين هو السيطرة على كرسي أبرشية الفرزل وزحلة والبقاع الغربي، مع ما يعنيه ذلك من تأثير في الانتخابات النيابية والبلدية المقبلة، إضافةً إلى التأثير في انتخاب نائب رئيس المجلس الكاثوليكي الأعلى. وفي هذا الإطار، يبرز دور نائب رئيس «المجلس»، الوزير السابق ميشال فرعون لدعم خيار تيار المستقبل. موقفه نابعٌ من مشكلته مع درويش، بعدما علّق الأخير مهام فرعون. على خطّ حزبَي القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، لم يُسجّل بعد أي تدخّل رسمي، رغم أنّ «القوات» تبدي امتعاضاً في مجالسها لاعتبارها أن تدخّل تيار المستقبل في انتخابات الأبرشية «يُسيء إلى زحلة»، التي ينظرون إليها كـ«عرينهم»، وحظوا فيها بنسبة كبيرة من أصوات أبناء الطائفة الكاثوليكية في الانتخابات النيابية والبلدية.

وسط هذا المشهد المنقسم، تخوض زحلة مجموعة تحدّيات، وثمة من يعتقد أنّه يفترض بالفاتيكان والسفير البابوي حسم الصراع لإبعاد شبح الانقسام عن الكنيسة. فكرسي أبرشية زحلة يُستخدم حالياً كسلاح بين قوى سياسية متصارعة. الأمر رهن بالرسالة التي يريد الفاتيكان نشرها في عاصمة الكثلكة، وخصوصاً أنّ المطران المقبل سيخدم رعيّته لمدّة 25 عاماً، وليس نائباً ــــ مثلاً ــــ يُكمل أعوامه الأربعة ويرحل.