بالكاد تسير عجلات الدولة، وبالكاد تحاول الحكومة ان تعبّر عن نفسها ولو بالحد الأدنى من العمل والانتاج، قبل أن تفقد مواصفاتها وصلاحياتها وتدخل في مرحلة تصريف أعمال مع انتهاء ولاية المجلس النيابي الحالي في ٢١ أيار ٢٠١٨، أي بعد ٧٢ يوماً.
بالكاد تعقد جلسة عادية لمجلس الوزراء، وبالكاد تحاول الحكومة إنجاز الموازنة، والذي يبدو انه اقترب من ان يصبح امراً واقعاً، ويُحال الى مجلس النواب في جلسة للحكومة يوم الاثنين، بما يؤشّر الى انّ طريق هذه الموازنة قد صار مفتوحاً الى الاقرار، ربما قبل نهاية الشهر الجاري. خصوصاً انّ رحلة الدرس المقررة لها في اللجنة النيابية للمال والموازنة مقدّرة بأيام معدودة، لأنّ اللجنة الوزارية برئاسة الحريري جهدت في نزع كل ما يَتطلّب «حك دماغ» او ما يثير نقاشاً والتباسات، من مشروع الموازنة.
أمّا بالنسبة الى سائر الاولويات الملحّة والضرورات، فبالكاد تُقارَب مع دخول البلد عملياً في زمن الانتخابات النيابية وتفرّغ القوى السياسية، وعلى وجه الخصوص القوى الممثلة في الحكومة، لهذا الاستحقاق ومحاولة تعبيد الطريق الى ساحة النجمة.
اذاً، الوقت أصبح قاتلاً، ولأنّه كذلك، ولأنّه أيضاً اصبح ضيقاً، فإنه لا يتّسِع لأن تُقارَب فيه أمور او مسائل او ملفات تحرف الانتباه او الاهتمام عن الاستحقاق الانتخابي الذي يعتبر مصيرياً بالنسبة الى كثيرين، ومن بينهم أطراف فاعلة في الحكومة. من هنا تبدو الملفات الاساسية والحيوية كلها معلّقة الى ما بعد الانتخابات. هذا اذا تمّت مقاربتها أصلاً، او وضعت لها الحلول والمعالجات الجذرية الحقيقية التي تتطلبها.
ما يثير الانتباه في هذه الفترة، ما تبدو أنها محاولات من جهات مختلفة، للنفاذ من هذا الوقت القاتل والضيّق انتخابياً، في اتجاه «الاستثمار الانتخابي» على بعض الملفات. فجأة، ومن دون أي مقدمات، تسحَب يد ما، ملف المسرحي زياد عيتاني والمقدّم سوزان الحاج من احدى الغرف السريّة، وترمي به على طاولة البلد. وأسئلة كثيرة أثيرت وما تزال حول هذا الرَمي وابعاده، في هذا التوقيت السياسي والانتخابي بالذات. وكذلك حول الآثار الموجعة التي تركها، سواء لناحية الإرباك على المستوى السياسي، وعلى مستوى سمعة بعض الأجهزة الأمنية، والآثار المباشرة والسلبية التي تركها على مستوى علاقات الاجهزة ببعضها البعض.
وفجأة، يُثار موضوع العفو العام، وتروّج له قوى سياسية لم تكن متحمّسة لهذا في غير الزمن الانتخابي الحالي، وهذا الأمر يتفاعل في بعض السجون من تحركات اعتصامات لمساجين من جهات معيّنة، فضلاً عن انه شكّل صاعقاً تفجيرياً على المستوى السياسي، بعد الذي تردّد عن شمول هذا العفو عناصر شاركت في عمليات إرهابية وفي قتل جنود الجيش اللبناني.
وفجأة، تُصاب العلاقة بين التيار الوطني الحر وحركة «أمل» بتوعّك شديد وَسّع الهوة العميقة الفاصلة بينهما والتي تزداد اتساعاً مع الوقت، وأعراض هذا التوعّك ظهرت مع الاطلالة التلفزيونية للوزير جبران باسيل في مقابلة تلفزيونية، والتي بادر فيها الى إطلاق النار السياسية في اتجاه الرئيس نبيه بري وكذلك في اتجاه الوزير علي حسن خليل. وباعترافه شخصياً انّ ما قاله سيؤدي الى مشكل في البلد. وهو ما حصل بالفعل. فردّ خليل على باسيل بكلام قاس وضُرِبت الهدنة السياسية بين «أمل» و«التيار»، التي صاغَها التفاهم الرئاسي وخصوصاً بين الرئيسين ميشال عون ونبيه بري.
وفجأة، يُبادر رئيس الحكومة سعد الحريري الى الطلب من الوزارات تخفيض موازناتها بنسبة ٢٠ في المئة.
كان يمكن لهذا الطلب ان يكون مكتملاً وفعّالاً أكثر لو اقترن بالشروع في مكافحة الاسباب الحقيقية المسبّبة لهذا العجز، والكامنة في الهدر والفساد وجيش الفاسدين المَشكو منهم. ولكن برغم هدف الحريري بتقديم موازنة أفضل الممكن وبعجز أقل على مالية الدولة، ثارت اعتراضات على التخفيضات، وخصوصاً على تلك التي طالت قطاع الصحة، والقطاع المرتبط بالحالات الانسانية التي يشكّلها أصحاب الاحتياجات الخاصة.
المفاجىء في هذا الجو التخفيضي لأرقام الموازنة والعجز، كان محاولة إعادة إحياء ملف بواخر الكهرباء من جديد، على الرغم من الاعتراض الواسع عليها من قوى سياسية مختلفة: «القوات اللبنانية»، «حزب الله»، حركة «أمل»، «الحزب التقدمي الاشتراكي» ، تيار «المردة»، «الحزب القومي» وكذلك «الكتائب».
شعر المعترضون بالاستفزاز، لا بل بمحاولة ابتزاز، خصوصاً انّ الإحياء يتمّ بطريقة الفرض والإكراه: إمّا البواخر وإمّا العتمة؟! وهنا كرّت سبحة الاسئلة:
– حول ما سمّي «الإحياء المريب» لملف يوصَف بأنه الأكثر خلافية من بين كل الملفات. ويتّفق المعترضون كلّهم على انه ملف تعتريه الكثير من الثغرات والشبهات.
– حول كيفية المواءمة والتوفيق بين السعي الحكومي الى تخفيض العجز في مالية وبين محاولة لإرهاق مالية الدولة بصفقة تُكبّد الخزينة مئات ملايين الدولارات؟
– حول مغزى وأبعاد الدخول المباشر لرئيس الجمهورية على خط البواخر والدعوة الى السير بها، مُتبنياً وجهة نظر الفريق الوزاري المحسوب عليه. وكذلك وجهة نظره في ما خَصّ معامل الكهرباء ومن يعطّلها.
– حول الاسباب الحقيقية الكامنة خلف الإصرار على البواخر ومحاولة تمريرها بأيّ ثمن على رغم الموجة الاعتراضية الكبيرة عليها؟
– حول الاصرار على ملف، معروف سلفاً انه يشكّل صاعق تفجير لاشتباك سياسي حوله؟
– حول تَعمّد تجاهل رأي الخبراء الذين يؤكدون انّ كلفة استئجار البواخر خيالية، وثمة أماكن أخرى بإنتاجية أكبر وبكلفة أقل وتحقّق وَفراً كبيراً على الخزينة؟
– حول الإصرار على الشركة التركية من دون غيرها، والاصرار على شراء الكهرباء من البواخر وصرف النظر عن بناء المعامل في البر برغم وجود أماكن لبنائها؟
– حول استباق ما سيتوصّل اليه القضاء المالي الذي بدأ بتحقيقات حول شبهات تعتري هذا الملف وسَمسرات بملايين الدولارات؟
خلاصة ما ينتهي اليه المعترضون، هو انّ رائحة الانتخابات النيابية عابقة في كل ما تقدّم، وكذلك قد تعبق في ما قد يحصل او يُثار من ملفات أخرى، من الآن وحتى موعد الانتخابات. من أعاد طرح ملف البواخر يدرك انّ إمكان السير به مستحيل في هذه المرحلة، وفي ظل الاعتراض الواسع عليه.
وربما هناك من يريد استجرار الطاقة الشعبية من العنوان الكهربائي والدفاع عن مصالح الناس، وربما هناك من يعتقد انّ هذا الاستجرار يتطلّب جولة جديدة من السجال والاشتباك بين «التيار الوطني الحر» وحركة «أمل». وربما يكون السبب الأساس وراء كل ذلك مرتبطاً بنتائج الاستطلاعات التي لم تكن بقدر طموحات بعض التيارات؟!