منذ الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان، ومسألة وضعية سلاح «حزب الله» هي «مسألة المسائل» في السياسة اللبنانية، وبشكل أوضح بعد الجلاء السوري عن لبنان.
ما تبدّل مع الوقت ليس الانقسام حول هذا السلاح، فهذا الانقسام تعزّز، وتجذّر، والموقف الخلافي حول «ما العمل» بعد التحرير تفاقم عندما صار الموقف خلافياً حول زج السلاح في الأزمة الداخلية، وتفاقم أكثر مع حرب استنزافه في سوريا. تبدّلت عبر كل هذه المنعطفات، طريقة طرح الموضوع، وسقف طرحه، والكيفية التي يجري بها الوصل بينه وبين سواه من الموضوعات.
مؤخراً، يدخل البلد، بأشكال مختلفة، في تجربة «جديدة» نوعاً ما: تجريب امكانية «عزل» موضوع سلاح «حزب الله» عن بقية الموضوعات، ليس فقط «على الرغم من استعصائه»، ولكن، «بما أنه» مستعص في الأمدين المباشر والمتوسط، وبما أن «حقله القتالي» حالياً خارج الحدود.
وحده الواقع كفيل بالاجابة على ما يمكن أن تظهره هذه التجربة. الحكم عليها مسبقاً، بشكل سلبي، تدفع نحو اغراءات كثيرة. في الوقت نفسه، أي مسعى للحفاظ على استمرارية الدولة، ومؤسساتها، ومعالجة آثار الفراغ والتعطيل الوخيمة، لا بدّ له من تحقيق استقلالية نسبية بين موضوعات وملفات كثيرة، وبين «القضية المركزية – سلاح حزب الله». وهذا لا ينحصر في القضايا ذات الطابع الخدماتي او التنموي او الاجتماعي. انه يتعلق أساساً بمسألتين مرتبطتين عضوياً بقضية السيادة، ببعديها الشعبي والوطني.
فـ»سلاح حزب الله» لم يكن الاستعصاء الوحيد للجمهورية. قانون الانتخابات، والسياسة الخارجية النافعة للبلد، استعصيا كذلك الأمر، وتداخلاً طبعاً مع مشكلة استعصاء مشكلة الحزب وسلاحه. مع فارق: أنّ الكل بمستطاعه الكلام عن «قانون انتخابي عصري ويراعي صحة التمثيل» من دون أن يكون لكلام كهذا مدلول توصيفي للقانون الانتخابي الافضل، أو مدلول تقريبي لوجهات النظر بين الفرقاء الذين يدورون بشكل عبثي حول هذه النقطة. والكل، بدرجة أقل، بمستطاعه الاتفاق على صفات شكلية أو اعتبارية حميدة للسياسة الخارجية للبلد، يبقى أن الانقسام بين المحاور الاقليمية او التأثر بها عميق بما فيه الكفاية، لمنع تضمين الكلام وجهة واقعية ايجابية واضحة من شأنها اعطاء حيثية للاستقلال اللبناني في الديبلوماسية والسياسة الخارجية.
قانون الانتخاب واستعادة الديبلوماسية اللبنانية محكان أساسيان للمدى الذي يمكن أن يبلغه المناخ الانفراجي المحصّل مع انتهاء الشغور، وانتخاب الرئيس ميشال عون، وتكليف الرئيس سعد الحريري، ووجود رصيد فعلي عند هذه العتبة، في ما يتعلق بالاسراع في التشكيل.
اذا كانت مسألة «سلاح حزب الله» لا تزال مستعصية، وليس من مخرج من هذا الاستعصاء في الأمد المنظور، فإن الأمور ليست بهذه «القدرية» لا بالنسبة الى قانون الانتخاب، ولا بالنسبة الى السياسة الخارجية، رغم التأثير الجسيم لـ»سلاح حزب الله» وطريقة تفاعله مع المعادلات اللبنانية ككل، على هذين التحديين.
يبقى أنّ التخفيف من جسامة هذا التأثير رهن بالتقدم في «مأسسة» الاطار الذي يبحث عنه عن قانون انتخاب، والاطار الذي تتبلور في نطاقه مقدمات السياسة الخارجية اللبنانية النافعة والمستقلة.
التقدّم نحو مأسسة البحث في الفترة المقبلة حول قانون الانتخاب يبدأ من الاسراع في التشكيل الحكومي، ثم تحرير هذا البحث من المقولات التي تكرر بشكل محموم من دون أن تنتزع صوابية او أحقية بفعل التكرار وحده. بالدرجة الاولى: ليس صحيحاً أن «النسبية» تتمتع بامتياز مطلق على «النظام الاكثري». الفارق بينهما ليس كالفارق بين الديموقراطية وما ليس الديموقراطية. الفصل بين النظامين النسبي او الاكثري ليس مسألة مزاجية، ولا هو محسوم مسبقاً. اعتماد مبدأ «صوت لكل ناخب» على سبيل المثال يمكنه تزكية النظام الأكثري. المزاوجة بين هذا المبدأ وبين اعتماد الاقضية كدوائر يمكنه أن يحقق بالفعل نهضة تحديثية مهمة على صعيد القانون الانتخابي.
كي يتمأسس النقاش حول القانون الانتخابي، ويتبلور منحاه بشكل سريع نسبياً، بما يترك مساحة من الوقت بين إقراره وبين الاستحقاق الانتخابي، ينبغي أن توسع القاعدة التداولية بشأنه، وأن توزن الحجة بالحجة، وليس بتكرار مقولات معادة منذ سنين طويلة بلا طائل.
كذلك التحدي المرتبط بانتهاج سياسة خارجية مستقلة، تستظل بخطاب القسم. هو تحد يزداد راهنية مع المناخات المتقلبة في عالم اليوم، لكنه لا ينتج أيضاً عن «تشذيب نوايا» بقدر ما ينتج عن منح السياسة الخارجية أطرها المؤسساتية التي تفتقر اليها، وفي مقدمتها ضرورة تشكيل معهد عصري للديبلوماسية اللبنانية، وربط السياسة الخارجية بمؤسسات بحثية تراكم معرفة نافعة حول العالم اليوم، والعلاقات العربية والدولية اليوم. من دون خلق «اطار مؤسساتي» جديد للسياسة الخارجية، ومن دون أن يكون لهذا الاطار مجمعه البحثي والدراسي الفاعل، لن يكون من الممكن التقدم باتجاه وضع مشروع استقلالية السياسة الخارجية على سكته الصحيحة.
في حالتي القانون الانتخابي والسياسة الخارجية، النوايا مهمة، لكنها ليست كافية، من دون حد أدنى من الاطار المؤسساتي للتقدم على هذين الصعيدين. كما أن الاطار المؤسساتي هذا، هو المدخل في الحالتين، لفصل الاستعصاءين المزمنين في البلد، حيال قانون الانتخاب، وحيال ضمور وجه لبنان الديبلوماسي المستقل، عن «الاستقلال الأكبر» المتمثل بمعضلة السلاح.
هل انه قفز فوق تحدي التشكيل الحكومي؟ ليس تماماً، ما دام التشكيل الحكومي سيقاس ايضاً بمدى القدرة على الخروج بصيغة قادرة على «تسهيل» الطريق أمام قانون الانتخاب، وأمام العناصر الاولى للسياسة الخارجية المستقلة.