قال الإمام السيد موسى الصدر بتاريخ 1969/11/24: «يجب أن نميز بين صيغة المجتمع التي هي «التعايش» بين مجموعات حضارية في وطن واحد على أساس الحرية، ذلك أن التعايش أقدم من الميثاق الوطني، وبين النظام القائم على الطائفية السياسية التي تكرس الانعزال والقوقعة والتي تهدد التعايش… والتجارب التي مر بها لبنان منذ «لبنان الصيغة» أكبر دليل».
تبدو المرحلة التي نعيش الآن شبيهة إلى حد كبير بمرحلة ما قبل الحرب الأهلية من حيث عودة اللبنانيين إلى البحث عن الصيغة التي يجب أن يقوم عليها هذا اللبنان وعلاقات مكوناته الاجتماعية ــــ الطائفية بعضها مع بعض، وما تختزنه نياتهم من محاولات لإنكار المتغيرات الاجتماعية ــــ السياسية الكامنة التي تتراكم والتي تحفر عميقاً في قلب النظام وتؤسس فيه لخواءٍ يهزه فيسقطه مرةً ويعدله مرات أخرى أو يزرع فيه فوضى مقوننة مستدامة كالتي شهدناها ونشهدها منذ الانتخابات النيابية عام 1992.
لكنها المرة الأولى منذ إقرار اتفاق الطائف وتعديله عرفياً بتسوية الدوحة وقف اللبنانيون فيها بعضهم بمواجهة البعض الآخر من دون وسيط «غريب» اعتادوه. فسارعوا لاستنهاض سلاحهم التقليدي: الطائفية باعتبارها الوسيلة التعبوية الوحيدة لتحشيد اصطفافات تُشعِر الآخر أو بالأصح الشريك المفترض بالجهوزية للذهاب إلى المجهول مهما كلف الثمن.
هي لعبة قديمة ــــ جديدة ممجوجة يدخل عليها بين الحين والآخر لاعبون جدد، يقدمون أنفسهم بأنهم من خارج نادي التقليديين السياسيين الذين أمعنوا في الفساد، وأنهم يسعون إلى الإصلاح والمواطنة. ولأن السياسة تقوم على الوقائع والأفعال، وليس على النيات مهما صَلُحَت، يلجأ هؤلاء إلى استعارة الآليات والأساليب ذاتها التي بنى عليها التقليديون إماراتهم الطائفية، علهم بذلك يجارونهم طائفية ومحاصصة ونفوذاً.
لذا، لم يعد خفياً على المتابعين والمهتمين أن منطق النقاش حول إنتاج قانون جديد للانتخابات النيابية يُستَهلك بالمناورة الرخيصة التي تقوم على الإحساس بالامتلاء لدى كل طرف عندما ينجح في رمي كرة التعطيل في ملعب الآخر، أو حينما يُحرِج الطرف الآخر بالمزايدة «الوطنجية» من خلال طرح شعارات براقة حول سعيه لإحقاق توازن وطني عبر تمسكه بقانون طائفي أو مذهبي، والأدهى يتجلى بمحاولة التذاكي على الناس حين يقول إنه مع قانون وطني يجمع ولا يفرق، وإنه في الوقت نفسه سيصوت لقانون طائفي إذا نال تأييد أكثرية الأطراف الأخرى!
الواقع اليوم أننا أمام قوىً لديها الرغبة في تكريس انقسام طائفي عمودي وقوننته، لكن ليس لديها القدرة لتحقيق ذلك وحدها، فتتكل ضمناً على قوى قادرة على إحداث نقلة نوعية في النظام السياسي من خلال الإصرار على إقرار قانون عصري للانتخابات. غير أنها لا ترغب في ذلك، بحجة أنها لا تريد أن تختلف مع أحد، وهذا أيضاً يندرج في إطار المناورة التي تلزم أصحابها فيصبحون أسرى تفاصيلها!
الآن، تفصلنا أيام عن موعد التجديد للنظام الحالي المتهالك، أياً كان قانون الانتخاب الذي سيُعتمد، «ستيني» أو «تأهيلي طائفي»، وإلا نذهب نحو المجهول في حال انتهاء الولاية الممدَّدة للبرلمان.
لكن الذي يجري فعلياً، هو وضع اللبنانيين في مواجهة معضلة مفترضة من قبل قوى السلطة مجتمعة، حول الفراغ وعدم الفراغ والنقاش في مواد دستورية مختلفة. لكن الهدف الفعلي هو إغراق اللبنانيين بالقلق على المصير والوجود، وتهديد التوازنات الطائفية، وإشغال الناس بأخبار اجتماعات الطبقة السياسية وجهودها للوصول إلى تسوية توافقية. فتكون النتيجة أن هذه الطبقة نجحت مرة جديدة في تجنيب لبنان واللبنانيين السقوط، بينما الحقيقة هي أن قوى السلطة جنبت نفسها، ومتّحدة، السقوط!