في الايام الاخيرة انتقل السجال من الخلاف على قانون الانتخاب الى التهديد بالتلاعب بمواعيد الانتخابات النيابية وتعطيلها، بين مصرّ على اجرائها وفق القانون النافذ ورافض خوضها والتلويح بتأجيلها. بذلك يقترب المشهد من 2013 عشية التمديد الاول
استمهل رئيس الحكومة سعد الحريري رئيس مجلس النواب نبيه بري حتى 15 شباط جوابه عن موقفه من القانون الجديد للانتخاب. حتى هذا الموعد تكون الانتخابات النيابية دخلت في دائرة مهلها القانونية التي لم تعد تحتمل الارجاء واهدار مزيد من الوقت. على ان الموقف المؤجل للحريري يضع مصير استحقاق 2017 بين احد خيارين: الذهاب الحتمي الى اجرائه عملاً بقانون 2008 على انه أمر واقع بذريعة ان اولوية اجراء الانتخابات تتقدّم التوافق على قانون جديد للانتخاب لا يزال مستعصياً، او مباشرة مفاوضات جديدة بين الافرقاء الاساسيين توصلاً الى صيغة تتوئم بين اقتراحي القانون المختلط المتداولين ما يفسح في المجال امام تمديد لولاية المجلس الى الخريف المقبل، ثلاثة اشهر على الاقل بعد انقضاء الولاية القانونية للبرلمان الحالي في حزيران 2017.
حتى الوصول الى الموعد الذي يعلق عليه الحريري موقفه من قانون الانتخاب، يتصرّف الافرقاء جميعاً على انهم ذاهبون حتماً الى اجراء الانتخابات النيابية من ضمن مهلها القانونية تبعاً لاحكام القانون النافذ، آخذين في الحسبان بضعة معطيات، منها:
1 ــــ خلافاً للمواقف المعلنة، يكاد يلتقون جميعاً على القبول بقانون 2008 المستمد من قانون 1960. بعد جهر النائب وليد جنبلاط التمسك به شرطاً لانخراطه في انتخابات 2017، لا يقل تيار المستقبل اصراراً على هذا القانون بذريعة مزدوجة: ظاهرها تفهّم وجهة نظر الزعيم الدرزي، وباطنها الابقاء على الكتلة الحالية للتيار كي يستمر التجمّع الاكبر في البرلمان وهو ما لا يوفره له اي قانون آخر. في المقابل لا يضير الابقاء عليه الثنائية الشيعية اذ تقبض على انتخابات البقاع الشمالي وكل الجنوب، وتعوّل خارجهما على حلفاء حتميين في بعبدا وجبيل وبيروت. بدورها الثنائية المسيحية الجديدة أمست الآن حاجة رئيسية لآخرين في دوائر كانت تحتاج في ما مضى الى مجاراتها اياهم، وهو ما يصح على دوائر الشوف وعاليه وبيروت الاولى وزحلة والكورة، ناهيك بتقاسمها حصص جبل لبنان الشمالي والبترون، وعزمها على المغامرة في زغرتا.
2 ــــ ليس قانون الانتخاب وحده يصنع الغالبية النيابية، بل طبيعة موازين القوى الراهنة في مواعيد اجراء الانتخابات النيابية. لا تقتصر هذه القاعدة على قانون 2008، بل يصح تعميمها على معظم قوانين الانتخاب المتعاقبة، اذ تتولد نتائج الانتخابات النيابية من واقع التحالفات وموازين القوى القائمة. لم تتردد قوى 14 آذار في انتخابات 2005 في التمسك بقانون 2000 الذي اتى في عام وضعه بالغالبية النيابية الموالية لسوريا، وبعد خمس سنوات بالغالبية النيابية لمعارضيها من غير ان تسقط منه فاصلة واحدة. بسبب تشبثها باجراء الانتخابات عام 2005 في موعدها بغية القطف الفوري لثمار اغتيال الرئيس رفيق الحريري سياسياً ومغادرة الجيش السوري لبنان على انها سانحة استثنائية لتولي السلطة برمتها، ذهب هذا الفريق الى قانون وضعه اعداؤه ورفضه في حينه، الا انه انتصر فيه في ما بعد وامست الاكثرية النيابية لديه.
النموذج نفسه انطبق قبلاً على قانون 1960 حينما انقلبت الغالبية من فريق الى آخر في ظل القانون نفسه، لكن تحت وطأة انقلاب حاد في موازين القوى السياسية الراهنة حينذاك. في انتخابات 1964 حاز «النهج» الشهابي على ما يفوق غالبية الثلثين، فيما تفرّق خصومه وسقط زعيمان مارونيان هما كميل شمعون وريمون اده. في ظل القانون نفسه، في مناخ مغاير وحاد تداخلت فيه الانقسامات الوطنية على الخيارات الاقليمية من الناصرية والفلسطينيين ما بين «النهج» و»الحلف الثلاثي» تمكن الاخير من انتزاع جبل لبنان الشمالي كله وجزء من جبل لبنان الجنوبي ممهّداً لانتصاره على الشهابية في انتخابات الرئاسة عام 1970. على ان المهم في الانتخابات التالية، 1972، في ظل قانون لم يتغير منذ عام 1960، انهار التجمعان النيابيان الكبيران «النهج» و»الحلف» وتبخرا واستعاد البرلمان مرحلة التكتلات النيابية الصغيرة المتفرقة التي عبرها في انتخابات 1953 و1957 في ظل قانون واحد تقريباً جعل الدوائر فردية.
ليست مفارقة القول ان لبنان خبر ما بين عامي 1943 و1972 خمسة قوانين انتخاب تقلّب فيها تقسيم الدوائر ما بين موسعة وفردية ووسطى، من غير ان تتبدّل الطبقة السياسية الحاكمة على مرّ ثلاثة عقود كاملة، بسبب متانة تحالفات راحت تكيّف موازين القوى القائمة مع قانون الانتخاب الجديد، من غير ان يحدث انهياراً جوهرياً فيها ولا ان يُخرج اللاعبون بعضهم بعضاً.
على نحو مماثل شهدت انتخابات 1992 و1996 و2000 ـ وكل منها أُخضِع لقانون انتخاب مختلف تماماً عن سلفه ــــ نشوء تكتلات نيابية ثابتة راسخة لم تتبدل فيها التحالفات التي افضت دائماً في ظل موازين قوى راهنة فرضها السوريون الى استمرار الطبقة السياسية ذاتها. بل تمكنت التحالفات تلك ــــ بفروق غير ذات اهمية في لعبة الخصومة والتنافس ــــ من اختصار البرلمان طوال 13 سنة في اربع كتل رئيسية كبرى قبضت على نصابه في كل اتجاه. هي نفسها الكتل التي انشأها السوريون وسهروا على استمرارها، فإذا من بعد جلائهم تستمر ايضاً، ولا تتردد في ان تقيم تحالفاً رباعياً في ما بينها عام 2005 في وقت كانت تنقسم على كل شيء في لبنان تقريباً وقتذاك: على سوريا، والقرار 1559، وسلاح حزب الله، والتحقيق الدولي في اغتيال الحريري الاب، ووضع اليد على الحكم، وخلع رئيس الجمهورية، وتقويض السلطات القائمة.
3 ــــ يخوض الافرقاء الرئيسيون انتخابات 2017 تحت سقف تسوية 31 تشرين الاول، مع انتخاب الرئيس ميشال عون ومن ثم تسمية الحريري رئيساً للحكومة فتكافأ التوازن داخل السلطة الإجرائية برأسيها. على صورة انبثاق حكومة بتوازناتها المتكافئة بدورها، كجزء لا يتجزأ من التسوية تلك، يذهبون الى انتخابات الصيف المقبل بغية اكتمال آخر حلقاتها. انتخابات نيابية لا خصوم فيها ولا اعداء ولا شعارات ولا مشاريع اقليمية، تحافظ على الكتل النيابية الحالية على انها الممثلة الفعلية في البرلمان لادارة السلطة في المرحلة المقبلة.