حين يرفع أرباب طاولة الحوار الوطني أصابعهم استسلاماً لعجزهم عن التفاهم حول قانون انتخابي جديد، فيهربون الى الأمام من خلال ربطه بسلّة مقايضات شاملة تقيهم شرّ الوقوع في مطبّ التوافقات الجزئية، سيكون من المسلّم به أن يكتّف أعضاء اللجان المشتركة المكلفة البحث عن صيغة جديدة لـ «القانون الضائع»، أيديهم ليكتفوا بسياسة تقطيع الوقت بعدما رموا الكرة في ملعب «الكبار»، وراحوا ينتظرون.
يكفي أن يكون موعد الجلسة النيابية بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على التئام طاولة الحوار الوطني التي خرجت من لقائها المطوّل من دون أن تحرز أي تقدم في الملفات المركبة الموضوعة على طاولتها، كي لا يشعر الجالسون في مكتب اللجان المشتركة أنّهم مقصّرون في مهمتهم أو قاصرون عن القيام بها.
هكذا، بدا من غير المستغرب أن يسلك النقاش بين النواب دروباً فرعية أخرى، قد لا تقل أهمية عن البند الوحيد الموضوع أمامهم، ولكن بالنتيجة، راحوا الى أماكن أخرى علّها تساعدهم على الوقوف على خطّ التقاء مشترك يجعل من التفاهم حول قانون الانتخاب ممكناً أو سهلاً.
بهذا المعنى انتقل الحديث من لغة الدوائر وأحجامها والأنظمة الانتخابية ونسب توزيعها، الى الجوهر ونقطة الارتكاز، اتفاق «الطائف»، من باب ابداء الخشية عليه والتدليل على روحيته، وحتى رفع هالة «القدسية» عنه، كما فعل النائب سامي الجميل الذي لم يتردد في القول صراحة إنّ احترام الدستور واجب لكن تقديس وثيقة الوفاق الوطني ليس حتمياً.
فعلاً، صارت نقاشات اللجان المشتركة أشبه ببرج بابل بفعل الضياع الذي يصيب أعضاءها. ونموذج «تيار المستقبل» هو الأكثر تعبيراً. اذ بينما أبعد الرئيس فؤاد السنيورة عنه من على طاولة الحوار الوطني كل كؤوس الاقتراحات المتداولة متمسكاً بالاقتراح المشترك الذي قدّمه «المستقبليون» بالاشتراك مع «الحزب التقدمي الاشتراكي» و «القوات اللبنانية»، ليترك كوّة صغيرة لاقتراح فؤاد بطرس، أعاد النائب عمار حوري ومن على طاولة اللجان المشتركة احياء ما أتى على ذكره اتفاق «الطائف»، أي المحافظات!
ومع ذلك، فقد فتح نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري الباب أمام الاقتراح المختلط ربطاً بالسقف الذي حدده السنيورة، علّه يتمكن من استدراج الحاضرين الى نقاط مشتركة تكون بداية جديدة لصيغة توافقية.
لكن النائب علي فياض بدا مهتماً بالاستفسار عن مقاصد «تيار المستقبل» بتحديد سقفه بالاقتراح المشترك على أنه أقصى ما يمكن تقديمه، وكأنه اقفال للنقاش وحصره باقتراح واحد لا أكثر، معتبراً أنّ الانتقال من صيغة الرئيس نبيه بري (المناصفة بين الأكثري والنسبي)، الى الصيغة المشتركة للثلاثي «المستقبل» ـ «الاشتراكي» ـ «القوات»، ومن ثم صيغة فؤاد بطرس، فيها شيء من العودة الى الوراء بدلاً من التقدم نحو الأمام.
ومع ذلك، لم يتردد في تسجيل ملاحظاته على صيغة بطرس (77 مقعداً أكثرياً و51 نسبياً)، أولها ضبابية المعايير المعتمدة في توزيع المقاعد بين النظامين الأكثري والنسبي، وحتى في تركيب الدوائر (فصل مرجعيون عن حاصبيا المجموعتين تاريخياً في دائرة واحدة والإبقاء على راشيا دائرة واحدة مع أنها تضم قضاءين اداريين).
حتى أنّ المعيار المرتكز عليه لاعتماد الأكثري أو النسبي غير مفهوم علمياً ولا يحمل أي دلالة، حيث يُبقي مثلاً على النظام الأكثري لكل مقعد فردي شرط أن يقل عدد ناخبيه عن نصف الحاصل الانتخابي للمقعد في هذه الدائرة.
بالنتيجة، تحوّلت الطاولة الى حلبة سيرك يمارس عليها اللاعبون قفزات بهلوانية تحملهم من اقتراح الى آخر من دون مبررات علمية أو حجج مقنعة. لهذا دعا النائب الان عون مثلاً إلى تعليق جلسات اللجان بانتظار استيضاح المسارات السياسية ليبنى على الشيء مقتضاه.
وهكذا أيضاً طلب النائب جورج عدوان الخروج من هذه الدائرة المقفلة من خلال الذهاب الى جلسة تشريعية تعرض كل الاقتراحات ليكون التصويت هو سيد القرار في رفع شأن احداها من مرتبة اقتراح الى مرتبة قانون. لكن طلبه تعرض طبعاً للتحفظ.
واذا كان معلوماً بأنّ عرضاً من هذا النوع لا يحصل الا في جلسة تشريعية ضمن العقد العادي للمجلس، المفترض أن يبدأ في أول يوم ثلاثاء بعد الخامس من تشرين الاول المقبل، فإنّ المتفق عليه بين القوى السياسية، وفي أكثر من جلسة مع الرئيس نبيه بري، هو أن قانون الانتخابات ميثاقي ولا يجوز تعريضه لسيف التصويت القانوني أو الكلاسيكي في الهيئة التشريعية، ولا بدّ من تحصينه بالتفاهم الوطني قبل عرضه على التصويت.
هكذا، يعرف الحاضرون جيداً أنّ رئيس المجلس قالها أكثر من مرة بأنه لن يسير بأي اقتراح الا إذا كان توافقياً بين جميع القوى وتحديداً «تيار المستقبل»، ولهذا فإنّ الدعوة الى التصويت قد لا تكون من مصلحة الداعين لهذا الخيار، على اعتبار أنّ صيغة حكومة نجيب ميقاتي قادرة على تأمين أغلبية مؤيدة لها (وليد جنبلاط أبلغ بري أنه مستعد للتصويت لها)، لكن الحرص على ميثاقية هذا القانون يدفع الآخرين الى التمهل في النقاشات والمشاورات بحثاً عن صيغة تفاهمية.
وعلى هذا الأساس أعيدت الكرة الى ملعب النقاش مع تحديد موعد جديد للجان في 13 تموز المقبل.
وكانت لجان المال والموازنة والادارة والعدل والدفاع الوطني والداخلية والامن والاعلام والاتصالات عقدت جلسة مشتركة برئاسة نائب رئيس المجلس فريد مكاري، ومشاركة 42 نائباً في غياب أي تمثيل للحكومة.
بعد الجلسة أشار مكاري الى أنه تقرر فصل عمل ونقاشات اللجان المشتركة عما يجري في هيئة الحوار الوطني، حصر النقاشات في الجلسات المقبلة للجان المشتركة بقانون الانتخاب حصرا، تخصيص الجلسة المقبلة المقررة يوم الاربعاء في 13 تموز 2016 لوضع المعايير التي يجب اعتمادها في القانون المختلط، في حال عدم التوصل الى التوافق يقوم نائب رئيس المجلس بعرض المشاريع والاقتراحات المقدمة سابقا على الهيئة العامة ليصار الى التصويت عليها وذلك بعد التشاور مع رئيس مجلس النواب.