بدأت الحرب على لبنان وهو بلا رئاسة ولا رئيس، ثم تطورت واتّسعت ووحّدت بين الساحات، ترابطت العمليات العسكرية في غزة وفي القطاع، وفي اليمن وفي العراق وفي سوريا وفي لبنان. تماسكت هذه العمليات العسكرية، وقويت وإشتدّت، دون حاجة لنظر من الرئاسة اللبنانية، ودون حاجة للموافقة أو المعارضة من الرئيس.
إستقلّت المقاومة بقراراتها، وصارت هي التي تدير حجر الرحى، وهي التي تسرّعه، وهي التي تبطئه، دون أن تتأخّر عن مهمتها، ودون أن يعيقها عائق. تمعس الوقت، تتجاوزه، تقتطعه، تقطعه، دون أن تتأثر بالشغور الرئاسي، أو بعدم إنتخاب الرئيس.
لم يتأثر لبنان بعد خمسة شهور على بدء الحرب عليه، بغياب الرئيس عن الإمرة في الحرب، ولا عن قيادة السفينة تحت هدير الموج العاتي، ولا عن توجس دخول البلاد في حالة الطوارئ، ولا عن الإهتزازات والزلازل، جراء شمول الحرب جميع أرجاء البلاد، وجراء التهديدات التي تطال لبنان، في أرضه وفي مدنه، وفي قراه، وفي عاصمته، وفي بناه، وفي أبنائه. فكل هذه الأمور نراها تجري على رسلها، بدون إجتماع ولو يتيم للقيادة، دون أي إجتماع لمسؤولين رسميين، تعنيهم الحرب، ويعنيهم السلم، بل دون أن تتأثر بالشغور الرئاسي، ودون أن تكون ممهورة بخاتم الرئيس.
وها هي الدول العظمى، تتابع إتصالاتها مع لبنان واللبنانيين، بلا حرج، تزور وتُزار، وتكثّف وتتكاثف المواعيد، تتواصل وتبحث في التفاصيل، ترسل إشاراتها القريبة والبعيدة، للتهدئة وللتفاوض، وللحثّ على تلبية مطالبها، وتحذّر وتندّد، وتعيّن السفراء وتستبدلهم، وتمنحهم الثقة، بالإتصال مع اللبنانيين، وبالحركة على الأرض، وفي المواقع، وفي الدور، وفي القصور، دون أن تشعر بعقدة الشغور الرئاسي، ودون أن تشعر بعقدة غياب الرئيس عن القصر الرئاسي.
الحرب التي إتسعت على اللبنانيين، لتشمل جميع أنحاء لبنان بعد عملية طوفان الأقصى، ما أخذت بعين الإعتبار الشغور الرئاسي، ولا أخذت بعين الإعتبار قصور القرار، عن توقيعات الرئيس. مضت الطائرات تشنّ غاراتها، ومضت المسيّرات تتغلغل في الشقق، تردي شاغليها. ومضت الصواريخ الدقيقة والذكية تتفحص السيارات، تتمحص الأهداف. مضى العدو ينفذ بنك أهدافه بلا حرج ولا إحراج، ولا يعير إنتباهه، للشغور الرئاسي، ولا يعير إهتماما، لعدم وجود رئيس.
شنّ العدو حربه على لبنان، بلا رسائل مسبقة مع الرئاسة، وبلا رسائل مسبقة مع الرئيس. فلا أرسل تنبيها، ولا تحذيرا، ولا طلبا، ولا وسيطا، ولا كلّف نفسه، التأخّر عن عملياته، للشغور الرئاسي، ولعدم إنتخاب الرئيس.
أعظم من ذلك، أن لبنان يفاوض شعبيا هذه الأيام، ولا يفاوض رسميا. لبنان الرسمي، غائب عن جميع أنواع المفاوضات الجديّة. ولبنان الرسمي، غائب عن جميع القرارات الميدانية. ولبنان الرسمي محظور عليه، أن ينبس بكلمة واحدة، فإلام البكاء على الشغور الرئاسي؟ إلام البكاء على غياب الرئيس؟!
إعتادت دول العالم أجمع، على لبنان، بلا رئاسة فاعلة، وبلا رئيس فاعل. فهي تنظر إليه، نظرة العطف، ونظرة الشفقة، ونظرة التألم لحاله الرثة، فَقدَ قواه جميعا، وخار «فيل» الدولة على الأرض. فلم يعد يسعه التحرك، لا يمنة ولا يسرة، ولا يسعه الخوار، ولا يسعه النهوض عن الأرض، فلا أنفاس له، إلّا بما يحمل إليه من الأوكسجين، ليوم أو يومين، أو لساعة أو ساعتين. أما أهله، فقد تأخّروا عنه. وأما الدول العظمى، فقد إنشغلت عنه. وأما العدو، فهو متربص به، يدعو عليه ولا يدعو له. وما عاد أمر لبنان، متصلا بالرئاسة والرئيس.
فقد مضت تلك الأيام، التي كانت الرئاسة فيه تهزّ المنابر، وتستفزّ الرئاسات والعروش. مضت أيام لبنان، حين كانت الرئاسة والرئيس، قطبا السياسة ومعقد الأمل. مضى لبنان الرئاسة والرئيس.
نسوق ذلك كله بألم وتألّم لحال لبنان اليوم، ولحال أحزابه وكتله البرلمانية، ولحال طوائفه وقيادته الروحية والمدنية وغير المدنية. فقد أسقط في أيديهم جميعا، حين لم يهبوا يدا واحدة، وحين لم يسارعوا رجلا واحدا، وحين لم يعملوا بعقل واحد. فقد أخذتهم الفرقة، دُكّت دورهم وقصورهم، هُزّت أركانهم، وقُدّمت بلدهم لقمة سائغة، لمآدب اللئام، فباتوا أيتاما بلا آباء، بلا أمهات. تأخّرت عنهم الأم الحنون، فلم يعد هناك من يحفل بهم، لا من الأشقاء ولا من الأصدقاء. فباتوا بلا شقيق ولا صديق، وبلا حول ولا قوة، تنشل البلاد والعباد مما وقعوا به من ضيق.
لم تعد الرئاسة هي الجهاد الأكبر. ولم يعد الرئيس هو الجهاد الأصغر. صارت حياة لبنان كلها في خطر. جرت الحرب على لبنان، وإستبيحت أجواؤه وأبحاره وأراضيه. وما تأخّر عنه العدو، وما تأخّرت مواجهة العدو، ما تأخّرت المقاومة، ما تأخّر الميدان، كل شيء كان يجري بقدر، ولو في الشغور الرئاسي، ولو في غياب الرئيس.
فإلام بعد كل ذلك التعنّت، كل ذلك الحذر، كل ذلك التباطؤ؟ إلام كل هذا الإنتظار حتى إنسداد الرؤيا؟ إلام كل هذا التردد، بعد كل هذه الحرائق، بعد كل هذا الدمار، بعد كل هذا الموت، بعد كل هذه المسيّرات، التي تطال الناس في غرف النوم، وفي غرف السهر، وفي الممرات وفي المستودعات، وفي الملاجئ الخفية، عن عيون الأهل، وعن عيون الأعداء، على حد سواء؟
إلام كل هذا التردد من الذهاب إلى البرلمان لإنتخاب رئيس، ونحن نعرف مسبقا، أنه لا «يشيل الزير من البير». فقد صار قرار الحرب والسلم، في مكان آخر خارج البلاد، تماما كما صار الشعب أيضا خارج البلاد. فقد سبقنا جميعا عصر الحرب، وعصر السقوط، وعصر التساقط، حتى ولو كنا بلا رئاسة ولا رئيس. فما عاد هناك من يشفق علينا، ولا عاد هناك، من يقف على خاطرنا. فلماذا نظل نركب رأسنا ولا نذهب لإنتخاب رئيس، يحسن التوازن بيننا، يدفع بجرعة الأمل، إلى شفاهنا، يجعلنا نعيش على حلم إستعادة الدولة، ولو كنا نموت في بيوتنا، ولو كنا ننزل في توابيتنا رغما عنا؟ ألم يحن الوقت بعد، لننهض من أكفاننا، ونجري إلى البرلمان لإنتخاب رئيس؟