كنت خارج لبنان عندما بدأ الحراك الشعبي المطالبة بإصلاح شامل. تمنيت لو كنت هنا أشارك فيه وأطالب مع المتظاهرين بوقف الفساد والإسراع في الإصلاحات اللازمة لضبط الوضع وتسيير الأمور. قرف لبنانيو الداخل والخارج من «ريحة الفساد» التي تتراكم منذ اكثر من عقدين من الزمن. قرفهم لا يقتصر طبعا على «زبالة» النفايات، إنما يمتد الى «زبالة» الفساد المتنامي في كل مفاصل الدولة من كبيرها الى صغيرها، والى النظام المعطّل والشاغر قيادة وحكومة وبرلماناً.
الاحتكارات ممسكة بكل قطاعات الدولة «المنتجة» ابتداءً من المطار والمنطقة الحرة فيه، الى الهاتف والمرفأ، والأسفلت، والأراضي النهرية والبحرية، والجمارك والقيمة المُضافة والدوائر العقارية، والضمان الاجتماعي، واستيراد المحروقات وتوزيعها، ومولدات الكهرباء الخاصة في احياء المدن والقرى، ومعاملات الميكانيك والربى في كازينو لبنان. أماكن الترفيه والتسلية لها محتكروها، وحتى مواقف السيارات العامة والخاصة لها أربابها.
كلنا يعرف ان هذه الحكومة ولدت لتدير الشغور الرئاسي الذي توقّعه الجميع عند تشكيلها، خاصة أن لا لقاءات مصالحة لبنانية في القاهرة او الطائف او الدوحة او حتى مسقط، لأن الدُول المعنية بلبنان، المستفيدة من «زبالتنا» السياسية وتلك غير المكترثة، لن «تتآمر» لتجمعنا كي نتفق. بل تعتبر ان اللبنانيين دائماً يفتشون عن مكاسب في خلافاتهم، ويراهنون على هذا او ذاك من الخارج ليتغلبوا على اخصامهم في الداخل، رَغْم انهم يعرفون في يقينهم ان عليهم ان يعيشوا ويعملوا ويتشاركوا معاً لاستمرار هذا الوطن الذي لا يمكن لأحد منهم أن يتصور الدنيا من دونه.
رغم كل ذلك، ما زالت قيادتنا تتعاطى مع الأمور في انتظار قوى خارجية تعطف على مآسينا، فلا تبحث في القضايا الاساسية التي يواجهها اللبنانيون، كما حدث في طاولة الحوار الاسبوع الماضي، حيث لم يتطرق احد الى قضية وجودية تتعلق بوجود حوالي مليوني عامل ولاجئ سوري.
لن ينفع «الترقيع». الحلول الموقتة تأخذ لبنان من السيئ الى الأسوأ. الشعب في الحقيقة يريد حُكما وحَكما جديدين، والتظاهرات الشعبية كلها على حق في مطالبتها بإصلاحات جذرية، وهذا ليس غريبا ولا عجيبا في بلد لا رئيس للجمهورية فيه، ولا مجلس نواب شرعياً أو قانونياً يجتمع، ولا حكومة في مقدورها ان تلتقي لتحكم من دون ان نتساءل عن حال الادارة العامة بكل فروعها ودوائرها.
المشكلة الاساسية التي نتخبط فيها لا تنتهي بانتخاب رئيس للجمهورية كيفما كان. كان عندنا رئيس كهذا أجمعنا عَلَيْه بعد سبعة أشهر من الشغور الرئاسي، في مؤتمر الدوحة في العام 2008، ولم تصوّب الأوضاع بل زادت تعقيدا، وأخذ «تصريف الاعمال» ثلث العهد وقضى خلاف أهل الحكم على نصفه.
غير ان لبنان في حاجة الى انتخاب رئيس «حَكم». لكن آلية انتخاب الرئيس التي كانت ملائمة قبل الطائف، يوم كان الخلاف السياسي بين المسيحيين والمسلمين، باتت لا تصلح منذ بداية هذا القرن والخلاف الأساسي بين السياسيين اصبح ايضا بين المسلمين. هذه الآلية في حاجة الى تغيير، وكان يجب اقرار غيرها خلال العهد السابق، خاصة وان الرئيس السابق لم ينتخب في أيار 2008، إنما عُين باتفاق إقليمي دولي. لذلك فإن اول ما يجب ان يتطرق اليه المتحاورون هو الاتفاق على آلية جديدة حاسمة لانتخاب الرئيس، لا تسمح بالتأجيل والمماطلة والممانعة، وعلى الطاولة اكثر من اقتراح وفكرة.
اما أزمة الحُكم ـ الحكومة او السلطة الاجرائية ـ فأساسها الاتفاق على قانون انتخاب جديد عادل ودستوري. الحُكم يُفرز من مجلس النواب والقانون الحالي، المتبع فقط في سوريا وكان يستعمل في الكويت والغي منذ عقد من الزمن، لا يفرز توازنا دستوريا ولا اكثرية تحكم وأقلية تعارض. انه يعمل ضد الاستقرار والسلام في لبنان.
تنقسم قوانين الانتخاب في العالم بين نظامين: النسبي او لكل ناخب صوت واحد. معظم الدول التعددية في العالم تتبع النظام النسبي بدائرة واحدة للبلد كله او دوائر متساوية تقريبا. لكن نظام لـكل ناخب صوت واحد يعطي النتائج نفسها في دوائر فردية او متعددة المقاعد.
حان الوقت للتخلص من وديعة فرنسية تخلصوا منها هم منذ عقود طويلة. تتبع فرنسا اليوم لانتخاب رئيس الجمهورية ومجلس النواب نظام لكل ناخب صوت واحد في دائرة فردية على دورتين. وهذا ايضا نظام من المفيد تقليده.
ان استمرار طاولة الحوار بلا جدول اعمال مرن وسائل، والتلهي بالصغائر والشخصانيات، لن يسمح باحتواء الوضع الرديء. وضع ازمة «الحُكم والحَكم» بندان وحيدان في جدول اعمالها يهدئ المعارضين، والاتفاق حولهما يضع الامور في الطريق الصحيح نحو حكم ديموقراطي مقبول.