لا أخفي على أحد أنني لم أكن شاطر أبداً في الحساب أيام المدرسة وكنت أكره مبدأ البيع والشراء لأنني كنت دائماً أخسر المال الذي تعطيني إياه والدتي… ولكن من أكثر المشاهد العالقة في مخيلتي من أيام الطفولة، وقوفي على الإسفلت الحامي أمام بيك أب محمّل بالبطيخ، ولكنني لا أتذكّر فعلياً إذا كانت شمس آب هي التي تشوّش ذهني أو يافطة «عالسكّين يا بطيخ» التي يعتمدها صاحب البيك أب كمبدأ لتسويق بطيخاته.
وأنا صراحةً لم أفهم في حياتي كيف يمكن لمِثل هذه السياسة أن تدرّ الربح على البائع، خصوصاً أنّ والدي كان يتلذّذ بفتح البطيخة تِلو البطيخة ولا يستقرّ على واحدة قبل هدرِ 4 أو 5 بطيخات بالقليلة، وأنا الغبي بالحساب كنت متأكّداً من أنّ بضعة زبائن من طراز أبي كانوا كفيلين بخراب بيت بائع البطيخ.
على كلّ حال، كانت العلاقة بين والدي والبطيخة استهلاكية بامتياز، لأنّ معيار البطيخة الجيّدة بالنسبة له كان لونها الأحمر وطعمها الحلو فقط لا غير، ولم يكن أبداً يختار بطيخة ليسألها عن رأيها بزراعة السفرجل أو عن السياسات التي تقترحها لحلّ مشكلة الريّ في سهل البقاع، بل كان كلّ همّه التهامُها.
بكلّ الأحوال، الموسم ليس موسم بطيخ، بل موسم ترشيحات «آذارية» وانتخابات «أيّارية»، وأنا أقف على الإسفلت ولا زلتُ غبياً في الحساب، لم أتمكّن من فكّ طلاسِم قانون الانتخاب وحساباته، ولم أفهم كمّية الترشيحات المهولة التي لم ترتبط غالبيتُها لا ببرنامج انتخابي ولا بوعود إنمائية مستقبلية ريادية…
ونتساءل، كيف يتجرّأ أيّ شخص أن يقدّم ترشيحَه ليصبح مشرّعاً للقوانين اللبنانية على مدى 4 سنوات في البرلمان، من دون أن يرتبط إسمه بمشروع يقترحه على الشعب خلال مدّة ولايته، في حين أنّ ملكة جمال لبنان أو ما يعادلها من مسابقات الجمال التي لا يأخذ أحد وعودها على محمل الجدّ، تفرض على المتسابقين والمتسابقات أن يقدّموا برنامجاً لمدّة تربّعهم على عرش الجمال… فهل يُعقل أن تكون ملكات وملوك الجمال أكثرَ جدّيّةً مِن الساعين والساعيات إلى السهر على قوانين البلاد وشؤون العباد؟
لا شكّ في أنّ الترشّح هو مِن حقّ أيّ إنسان لكن على شرط أن يكون البرنامج الانتخابي والوعود الانتخابية من حقّ جميع الناخبين، لأنه لا يُعقل أن يكون الأميركيون والاوروبيون واليابانيون والمغول يفهمون الديموقراطية بطريقة عوجاء ونكون نحن أربابها، هم يتناطحون ببرامجهم الانتخابية ووعودِهم أمام الملايين، ونحن نكاد نكتفي باعتبار أنّ اللايك على السوشل ميديا يساوي صوتاً تفضيلياً في صندوقة الاقتراع، والبرنامج الانتخابي ليس أكثر من «ستوري على انستاغرام»، فشهدنا على مئات الترشيحات وليس أكثر من بضعة برامج انتخابية ووعود متواضعة وحفلات مزايدات.
تكاد الديموقراطية في لبنان تشبه موجَ البحر، فلا نكاد نشتمّ رائحتها ونستمتع بصوتها حتى تعود إلى ديارها سالمةً ولا يبقى لنا منها سوى كمشة زلط…
ديموقراطية باهتة لدرجةٍ تجعل المتفرّج يتمنّى لو أنّ كثيراً من الإيصالات الانتخابية المؤقتة التي انتشرت صورُها على مواقع التواصل الاجتماعي تمَّ إيداعها في مصرف بفائدة متوسطة، كان من المؤكّد صاحبها استفاد من أموالها أكثر من رميها في اللعبة الانتخابية، أو ربّما استثمرها في أحد المشاريع الإنمائية أو الاجتماعية التي لم يعلن عنها، أو دفع قسط مدرسة أو فاتورةَ اشتراك مكسور وثمنَ ربطة خبز متبقّية على الرفّ لأنّها لم تجد من يشتريها.
من المؤكّد أنّني لن أتعلّمَ الحساب أبداً، ولكنّني تعلّمت أنّه مهما عدَّ صاحب البيك أب بطيخاته ومهما كثر عددُها، فهو لن يعرف أبداً نسبة البطيخات الجيّدات، ولن يتمكّن من السيطرة على ذوق والدي ما دام يعتمد على سياسة عالسكّين يا بطيخ.