حافظَ الموسم الانتخابي على “محليّته الزائدة” في الأيام التالية مباشرة للضربة الثلاثية الغربية التي وُجّهت لأهداف اعتُبرت ذات صلة بمنظومة انتاج وتخزين الغازات السامة في سوريا. فعلى الرغم من تعاطي اللبنانيين بشكل مختلف مع الضربة واستمرارهم في الخوض بتداعياتها وما بعدها ومآل الأمور في سوريا، وبين روسيا والغرب حول سوريا وغير سوريا، وعلى الرغم من الإختبار الدقيق للبنان الرسمي المتصل ومبدأ النأي بالنفس، إلا أنّ الموسم الإنتخابي بدا موسم تجميع “الأصوات التفضيلية” أو حسن توزيعها بالنسبة إلى كل ماكينة حزبية، كما لو أنّ الضربة لم تحصل، مثلما كان قبل ذلك موسماً “انطوائياً على ذاته” بكل مفارقات عيش الديموقراطية الانتخابية، وان يكن المحدودة في حال لبنان، على بعد عشرات الكيلومترات فقط من المعارك والمجازر في غوطة دمشق.
مع هذا، ما ازداد وضوحاً في الأسابيع الأخيرة هو أنّ نظام آل الأسد ينشط مجدداً كي تكون له “سياسة خاصة في لبنان”، متحالفة بطبيعة الحال مع سياسة “حزب الله”، إلا أنّها قائمة بذاتها من خلال شبكة مرشّحين “نوستالجيين” لفترة الوصاية السورية (بخلاف “حزب الله” الذي يقاتل منذ سنوات طويلة في سوريا دفاعاً عن نظامها، صحيح، لكنه لا يطلق العنان لـ”نوستالجيا” داخلية تجاه فترة الوصاية السورية). يهمّ النظام السوريّ أن تكون له في داخل المجلس النيابي اللبنانيّ العتيد “سفارة برلمانية أسدية” حليفة لـ”حزب الله” ولبقية قوى 8 آذار، إنما قائمة على حدة في نهاية المطاف. فالنظام السوري ما زال ينظر إلى تحدي إعادة تشكيله لسياسة خاصة به تجاه الداخل اللبناني على أنّه ممر إلزامي لإستعادة قوته السياسية من بعد تقدمه البرّي من حلب حتى الغوطة، بسبب التدخلين الروسي والإيراني.
إلى حد ما، هذا الحرص من لدن النظام السوري، كي يكون له عدد من النواب، ولو اثنين أو ثلاثة، هو مرجعيتهم الأولى في المجلس النيابي، ينتظر منه أن يؤدي دور “خلية ضغط” متواصلة من أجل إعادة تطبيع العلاقات اللبنانية ـ السورية، وبالتالي إرهاق معادلة النأي بالنفس بحمولة زائدة، في الوقت نفسه الذي توجه فيه عواصم غربية أساسية ضربة جوية لمواقع تابعة لسيطرة النظام.
مقولة النأي بالنفس تستدعي عند كل عتبة ومنعطف صيانتها أوّل بأوّل. في الأشهر الماضية، أمكن إعطاؤها قدراً من الإرتكاز والدفاعات الذاتية، بالنسبة إلى سلوك درب النأي بالنفس عندما يتعلق الأمر بالخلافات والأزمات والمواجهات على صعيد الشرق الأوسط ككل. بمعنى من المعاني، تأمّنت صورة النأي بالنفس في الخريف الماضي على قاعدة الإبتعاد عن التموقع والإستقطاب المفتوح في ما يتعلق بالحرب الدائرة رحاها في اليمن، وبشكل عام توطيد سياسة الابتعاد عن المحاور الإقليمية.
لكن النأي بالنفس تصبح كلفته أعلى، وتأمين شروطه أكثر تدقيقاً عندما يتعلق الأمر بالحرب السورية. وهذا محور مرشح لازدياد التصويب عليه في الفترة الحالية. فمن جهة، هناك نظام سوري مهتم بالعودة الى لعب دور ما لدى جمهور معين من اللبنانيين. ومن جهة ثانية، ثمة كتلة ديموغرافية سورية كبيرة في لبنان بفعل موجات اللجوء والنزوح. ومن جهة ثالثة، ليس فقط هناك طرف لبناني يحارب الى جانب النظام في سوريا، بل أن هذا الطرف الذي لم تتعرض له الضربة الجوية الغربية، تتعرض له أكثر فأكثر الغارات الإسرائيلية الدورية، وبشكل يرفع من احتمال التصادم الوشيك بين الاسرائيليين وكل من “حرس الثورة الإيرانية” و”حزب الله”.
إذا ما وضعنا المرشحين الأكثر التصاقاً بالنظام السوري جانباً، ونغمة “نوستالجيا الوصاية” عندهم، سنجد أنه في ما عدا ذلك الإنتخابات هي استفتاء لكل حزب كبير ضمن طائفته بأنه ما زال يمثل المناخ الشعبي الأكثري ضمن الشارع المحسوب عليه بشكل أو بآخر. وهي انتخابات تنزاح أسئلتها من شارع إلى آخر. هناك في الحقيقة جامع مشترك: الموقف من التسوية الرئاسية والحكومية واستمرارهما. “مع”، “مع – وفي اتجاه تحسين الشروط”، “ضد”، “لا مع ولا ضد – ابهام”. في الدوائر ذات الكثافة المسيحية يتعلّق الاستقطاب بشكل أكثر مباشرة بمسألة “العهد”: هل فعلاً يشعر المسيحيون أن أحوالهم أفضل في السنتين الأخيرتين، لماذا نعم، أو لماذا لا.
المناخ المحلي الذي تُصاغ به هذه الإشكاليات لا يلغي أبداً صدى الحسابات والتحولات الإقليمية من خلالها. لكن التجاوز غير الكامل لثنائية 8 و14 آذار، وكون التجاوز قد حصل بشكل أساسي على خلفية الإشكال ضمن 14 آذار حول قانون الإنتخاب يوم طرح “القانون الارثوذكسي” من خلفية 8 آذارية، وكون ظروف التسوية الرئاسية والحكومية عززت من مسار تجاوز ثنائية 8 و14، ناهيك عن طبيعة القانون الانتخابي الحالي نفسه، و”السباق حول الصوت التفضيلي” الذي يبدل من معنى النظام الانتخابي النسبي رأساً على عقب، كل هذا أعطى للموسم الانتخابي طابع “المحلّية الزائدة”، مثلما بدا أكثر الكلام الانتخابي متشابهاً عند الجميع، عندما يتعلق الأمر بـ “شعارات” مكافحة الفساد، كأنه “الكاتالوغ” نفسه.
هذا المناخ الانتخابي المحلّي بدا عصياً على الضربة الجوية الصاروخية الأخيرة، فلم يتراجع، ولم يستأثر الاهتمام الإقليمي مجدداً بمركز الاستقطاب في الموسم الانتخابي. مع هذا، هناك سباق مع الوقت، بين موعد التوجه الى الصناديق، وبين التوتر الاقليمي، خاصة في ما يتعلق بالتوقعات المختلفة عن سلوك الاسرائيليين والايرانيين في الفترة المقبلة.
قسم غير قليل من هذه الانتخابات هو انعكاس للمآلات الاقليمية. ومع هذا، فان ساعة الانتخابات، والعد العكسي لفتح الصناديق والاقتراع، في سباق “صامت” حيناً، و”محموم” حيناً آخر، مع الساعة الإقليمية.. وحممها.