ستحفل الفترة المقبلة بولادة أطر متنوعة لمجموعات الانتفاضة الشعبية قد تتخذ عناوين جبهات أو إئتلافات أو مجالس أو غيرها وهي تتخذ المعنى نفسه تحت أية تسمية كانت، مع بدء العد العكسي للانتخابات النيابية بعد عام، هذا إن جرت.
تعلم احزاب السلطة تماما مدى التحدي لها على المستوى الشعبي بعد الانهيار المؤسف الذي حل بالبلاد وبعد انكشاف سوء ادارتها الذي أسفر عن تفجر حركة 17 تشرين. ولذلك قد تلجأ المنظومة الحاكمة الى حجج متنوعة لدرء تحدي الانتخابات عنها ولو غاصت البلاد في فراغ للسلطة يزيد من الازمات في البلاد ويبقي على موازين القوى كما هو عليه في المجلس النيابي بالنسبة الى من اودى باللبنانيين الى ما هم عليه الآن.
لكن اذا ما افترضنا إجراء الانتخابات فإن مجموعات الانتفاضة هي امام امتحان صعب لإثبات الوجود. سيكون التحدي قائما بقوة في ظل قانون حالي للانتخابات لا يسمح بالتغيير الجذري الذي تطمح إليه شرائح لبنانية واسعة قاطعت الاستحقاق الاخير العام 2018 واشتركت في فعاليات 17 تشرين أو تناغمت مع شعارات هذا التاريخ. وبرغم تلك الصعوبات، فإن ما يأمله هؤلاء ان تحقق شعارات قوى التغيير ومن بينها المنتفضين، خرقا ما ملحوظا وسط غابة من التحالفات السلطوية التي ستتجمع، على تناقضاتها، لحماية مصالحها ودرء أي تغيير عنها.
ومن ناحيتها، فإن مجموعات ذلك التغيير التي انكفأ معظمها عن الاستمرار في الشارع لأسباب متعددة تحدثنا عنها طويلاً، باتت على يقين ان خوض غمار التغيير من الداخل سيشكل الاسلوب الامثل وربما الوحيد في الوقت الحالي بعد ان بلغت الاحلام المتوهمة مداها في الايام الاولى للانتفاضة لإسقاط النظام بمن فيه.
لكن واقع قوة المنظومة الحاكمة وتماسكها وتغلغلها في الدولة، والاهم، طائفيتها، اضافة الى طبيعة النظام اللبناني القائم على التحاصص الطائفي والمذهبي والعائلي، كلها كانت عوامل اضيفت الى سوء ادارة المنتفضين وقلة نضجهم السياسي وعدم تمكنهم ماديا لاستقطاب الشرائح الساخطة على من في الحكم.
في كل الاحوال، قررت تلك المجموعات والشخصيات خوض غمار الانتخابات المقبلة لكونها احدى ادوات التغيير من دون ان تختصره. وبدأت الجهود لتظهير جبهات معارضة سياسية على اساس مواجهة السلطة. وهي جبهات بدءا من يمين الثورة على غرار الجبهة التي يرعاها حزب «الكتائب» مع مجموعات غير وازنة كثيرا في الشارع، مرورا بتلك التي قررت مجموعات عبر تشكيلات مختلفة الاعلان عنها في اجتماع «الكتلة الوطنية»، إضافة الى «الإئتلاف المدني اللبناني» المكوّن من «الجبهة المدنية الوطنية» ومنصّة «بيراميد» ويتشكل من مجموعات وشخصيات نخبوية، وليس انتهاء بيسار الثورة الأخصب دوما في المجموعات والقوة الشبابية التي تتوالد مجموعاتها كل فترة.
لكن حسب ما يتبين، ليست الجبهات التي شكلت او التي ستشكل بقادرة او حتى براغبة بتوحيد الجهود، كونها لا تحتفظ بالمقاربة نفسها لآليات التغيير مثلما انها لا تتشابه في الخلفية والدور.
لكن النيات، كما هو معلن، تحفل بأدبيات التغيير عبر جبهة موحدة تقدم بديلا الى الناس وتستعيد ثقتها وتسعى كهدف رئيسي الى تنظيم النفس وتقديم عمل جبهوي ورؤية موحدة لشكل البلد وكيفية بنائه.
لكن يبقى السؤال: لماذا لا تنسق المجموعات والشخصيات الكبرى بين بعضها البعض؟ واذ كان الوقت لم يحن بعد، فمتى يحين طالما ان الجميع يتفق على التغيير من داخل آلية النظام؟ وماذا لو لم تجر الانتخابات، هل يبقى التباعد على حاله؟
الأحزاب تلجأ الى «الخدمات»
هذا مع العلم أن احزاب وقوى الحكم تمكنت من استلحاق نفسها مع استفحال الازمة الاقتصادية والاجتماعية، وقدمت «خدماتها» لبيئتها سواء للفئات الاكثر حاجة ماديا او على صعيد المساعدة في مكافحة وباء كورونا ومنها تقديم اللقاحات لمناصريها وكل ذلك يمكن تصنيفه برشوات انتخابية «شرعية» لهؤلاء.
لكن ذلك لا يشمل جميع الفئات، فإذا كانت تلك الاحزاب قد فعلت في استعادة بعض الشرائح، فإنها لا تزال غير قادرة على اختراق طبقة وسطى تكبر يومياً تمردت أخيرا وتحتفظ بغضب عليها ولا تحتاج الى مساعداتها. وقد تمخض غضب تلك الطبقة في معارك الانتخابات الطلابية في الجامعات وفي تصاعد الغضب في النقابات حيث تلجأ السلطة الى تمديد المهل لعدم إجراء الانتخابات فيها كما حدث في نقابة الأطباء والمهندسين.
على ان قوى السلطة تلجأ، كما في كل ظرف، الى تصعيد معاركها الطائفية والمذهبية لاستجلاب العطف وتعزيز صفوفها، وليس ادل على ذلك أكثر من الصراعات على الحصص الحكومية التي لن ترى النور أصلا في وقت قريب، وتلك القوى تعلم ان من يتركها لا يذهب على وجه العموم الى منافسين آخرين في الساحة نفسها، بل يتخذ موقفا مخاصما للسلطة أو يستنكف عن العملية السياسية الانتخابية برمتها، وهذا أسوأ ما في الأمر.