Site icon IMLebanon

الانتخابات النيابية: بدايات… ومراحل (4)

العهد الاستقلالي الثاني زوّر انتخابات 1957 فكانت أحداث 1958

 

إذا كان العهد الاستقلالي الأول برئاسة بشارة الخوري قد انتج انتخابات 1947 فإن العهد الاسقتلالي الثاني برئاسة كميل شمعون انتج الانتخابات في عام 1953 وفق قانون جديد يقوم على الدائرة الفردية، فأحدث هذا القانون الشق الأول الذي تسربت منه كل أسباب تصديع الميثاق الوطني، ذلك أن تقسيم لبنان إلى دوائر انتخابية كبيرة على أساس المحافظات المتعددة الطوائف.. كان من شأنه إجبار المرشحين على التزام سياسة وطنية معتدلة بعيدة عن مبدأ التعصب الطائفي، سعياً وراء كسب أصوات الطوائف التي لا ينتمي إليها أو يمثلها المرشحون، وهكذا كان يتم التآلف الوطني على مستوى الانتخابات النيابية قبل أن يتجسد في مجلس النواب، أما عندما قسم لبنان إلى دوائر انتخابية فردية، وخفض عدد النواب.. فإن المرشحين أصبحوا غير ملزمين باتباع تلك السياسة، فضعف الولاء الوطني، واستفاقت الغرائز والمصالح الطائفية والمذهبية والعائلية والمالية.

 

وأدى ذلك فعلاً.. إلى انخفاض مستوى نوعية النواب، وإلى دخول عدد أكبر من الإقطاعيين إلى المجلس النيابي، كما اختفت الكتل النيابية من اللعبة البرلمانية.

 

إذ ما كاد النائب كميل شمعون يتسلم سلطاته الدستورية كرئيس للجمهورية في 23 أيلول 1952 حتى تنكر، كما يقول الوزير والنائب الراحل يوسف سالم لجميع الأصدقاء والأقطاب والسياسيين الذين مكنوه من الوصول إلى سدة الرئاسة.. وجاء بحكومة موظفين حياديين برئاسة الأمير خالد شهاب، ومعه: موسى مبارك، جورج حكيم، وسليم حيدر، وكان أول عمل قامت به هذه الحكومة التي لم تعمر سوى ستة أشهر، أن منحت من قبل مجلس النواب سلطات استثنائية مكنتها من إصدار قوانين بمراسيم اشتراعية في حقول الإدارة والإعلام والانتخاب، وعلى مستوى قانون الانتخاب، خفض الرئيس شمعون عدد أعضاء المجلس النيابي من 77 نائباً إلى 44، بذريعة رفع مستوى التمثيل الشعبي، واعتمد الدائرة الفردية الصغرى، بدلاً من المحافظة التي كانت معتمدة منذ أيام الانتداب الفرنسي.

 

الجدير بالذكر أنه سجلت في هذا القانون الانتخابي بادرة اعتبرت آنئذٍ بادرة تقدمية لأنه منح المرأة اللبنانية حق الانتخاب والترشيح للمرة الأولى، أسوة بالرجل بعد أن أُقر هذا القانون استقالت حكومة الأمير خالد شهاب، لتخلفها حكومة برئاسة صائب سلام، حلت مجلس النواب المنتخب عام 1951 في عهد الرئيس بشارة الخوري وأجرت انتخابات نيابية جديدة عام 1953، جاءت بأكثرية مدينة للرئيس شمعون وأقصت عدداً كبيراً من الشخصيات السياسية، ويعتبر قانون عام 1953 – كما يؤكد المراقبون والمتابعون والمحللون – هو الذي أحدث كل الشقوق في الحياة السياسية اللبنانية، والتي تسربت منها كل أسباب تصدع الميثاق الوطني، لأن تقسيم لبنان إلى دوائر انتخابية كبرى كما كان في السابق، من شأنه إجبار المرشحين على التزام سياسة معتدلة بعيدة عن مبدأ التعصب الطائفي، أما عندم قُسم لبنان إلى دوائر انتخابية فردية فإن المرشحين أصبحوا غير ملزمين باتباع سياسة معتدلة فاستفاقت الغرائز والمصالح الطائفية والعائلية والعشائرية، وضعف الولاء الوطني، وأسست بالتالي لكل المشاكل الأهلية التي حصلت فيما بعد.. وما تزال – وبتخفيض عدد النواب أيضاً من 77 نائباً إلى 44 نائباً – باتت الحكومات تعمل وكأنها بلا مراقبة من مجلس النواب، فمجلس من 44 نائباً يعني أن الأكثرية النيابية أصبحت 23 نائباً، وبما أن الحكومات كانت تتألف من عشرة وزراء من أعضاء المجلس النيابي، فهذا يعني أنها لم تكن سوى بحاجة إلى 13 نائباً للبقاء في الحكم، كما أن هذا القانون الانتخابي سمح لأي رجل أعمال أو زعيم عشيرة أو عائلة بإمكانه ترشيح نفسه، والحصول على ألفي صوت ليصبح نائباً، وهذا ما أدى فعلاً إلى انخفاض مستوى نوعية النواب، وإلى دخول أكبر عدد من الإقطاعيين إلى المجلس، كما اختفت الكتل النيابية من اللعبة البرلمانية. وبشكل عام يمكن القول: إن قانون انتخابات العام 1953 كان الخطوة الأولى في عملية التفكيك السياسي والوطني على مستوى التمثيل الشعبي في لبنان.

 

ويمكن القول: أن الرئيس كميل شمعون تخلص في تقسيم الدوائر الانتخابية على هذا النحو من كتلتين نيابيتين كبيرتين، طبعت الحياة السياسية اللبنانية بطابعها منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، وعنيت بهما الكتلة الدستورية والكتلة الوطنية، ذلك لأنه في ظل الدائرة الانتخابية الكبرى القائمة على أساس المحافظة.. كانت كل من الكتلتين تضم نواباً من مختلف الطوائف، ولكن القانون الانتخابي الجديد آنذاك.. وضع حداً لهذا التآلف الوطني الذي كان سائداً.

 

بأي حال.. ففي عهد الرئيس كميل شمعون ألغي نظام اللائحة الكبرى وحل محله نظام الدائرة الفردية، وأدى هذا القانون الجديد إلى نتائج سلبية.. كانبعاث التعصب الطائفي والنزاعات الإقليمية والطائفية والمذهبية.

 

ويعتبر البعض: أن تغيير قانون الانتخابات عام 1953 كان أول خطوة في عملية التفكيك السياسي والوطني والمذهبي على مستوى التمثيل الشعبي في لبنان، وشكل طعنة لروح الميثاق الوطني.

 

في الانتخابات النيابية التي جرت في شهر آب 1957 حاول الرئيس كميل شمعون، في ظل التطورات التي كان يمر بها لبنان والمنطقة، وفي ظل المعارضة المتنامية لعهده، أن يجمّل بعض الشيء من قانونه الانتخابي الذي وضعه عام 1953، فرفع عدد النواب من 44 نائباً إلى 66 نائباً، وأجرى تعديلات على الدوائر الانتخابية.. فعدل في تقسيم الدوائر الانتخابية، واعتمد القضاء باستثناء جبل لبنان.وقد تميزت هذه الانتخابات: بتدخل خارجي واسع، وبتزوير وضغوطات لم تألفها الحياة السياسية في لبنان.

 

بشكل عام.. فقد جسدت الانتخابات في هذا العهد انهيار الكتل النيابية الكبيرة، وسيطرة «الأنا» في هذه المرحلة، ونورد على سبيل المثال.. ما جاء في صحيفة «لوريان» في 10 حزيران 1953، حيث أدلى أحد المرشحين للانتخابات التشريعية لعام 1953 بتوضيح إلى صحيفة بيروتية كبرى قدمته لقرائها على أنه من المرشحين الذين يخوضون حملتهم تحت علم حزب الدستور فيقول: «بترشيحي في منطقة الفتوح.. فإني لا أجد لزاماً علي أن أعلن انتمائي إلى حزب سياسي، فأنا أسعى إلى الحصول على مقعد كان شغله والدي طوال 42 عاماً – من 1911 إلى 1953 – وبهذه الصفة وكممثل لأسرتي آمل أن أحصل على الأصوات التي تنصب تقليداً على اسمي».

 

ويسجل في انتخابات 1957، أن الطابع التي طبعت به هو التزوير، واستعمال المال الانتخابي والسياسي بشكل واسع النطاق، حتى أن مايلز كوبلاند في كتابه «لعبة الامم» يتحدث عن المبالغ المالية الكبرى التي أغدقتها السفارة الأميركية في بيروت من جهة ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية من جهة ثانية على المرشحين المحسوبين على واشنطن، من دون تنسيق بين الاثنين من أجل إنجاح مرشحيهم.

 

وقد تمكن كميل شمعون في تلك الانتخابات من إسقاط كل رموز المعارضة كصائب سلام، وعبد الله اليافي، وكمال جنبلاط، وأحمد الأسعد، لكنه عجز عن إسقاط صبري حمادة ورشيد كرامي ومعروف سعد وحميد فرنجية، الذين تنبهوا للخطة الشمعونية فحضروا جيداً لتفويت هذه الفرصة على العهد الشمعوني، بما فيها مسألة الإنارة في مراكز القيد، فحضروا الإنارة البديلة بواسطة مصابيح الكاز القوية «لوكس» بحيث ما أن حصل ما توقعوه.. حتى كانت الإنارة البديلة جاهزة للتو، وهكذا لم يفر من أقطاب المعارضة سوى الرئيس صبري حمادة في بعلبك – الهرمل ورشيد كرامي في طرابلس، وحميد فرنجية في زغرتا، ومعروف سعد في صيدا.

 

لقد انتج العهد الاستقلالي الثاني تفسخ الحياة السياسية اللبنانية بقانون الدائرة الفردية عام 1953، وتوجها بتزوير انتخابات 1957، مما انتج مرحلة خطيرة على البلد في ظل التطورات العاصفة التي كانت تشهدها المنطقة، وعليه كانت أحداث 1958 الدامية، التي اندلعت إثر اغتيال الصحافي نسيب المتني، والتي انتهت بانتخاب قائد الجيش اللبناني حينها فؤاد شهاب لرئاسة الجمهورية ليكون لبنان أمام مرحلة جديدة.