لا يمكن لسفير أجنبي في بيروت أن يمارس ما تعلّمه في أكاديميات بلاده، أو أن يحافظ على بروتوكول العمل الديبلوماسي كما تقتضي الأعراف. غالباً، يعاني الديبلوماسيون الأجانب كثيراً عندما يغادرون لبنان إلى بلاد طبيعية. «متلازمة لبنان» تلاحقهم أينما ذهبوا. المشكلة ليست في أن لدى بعضهم – أو غالبيتهم – استعداداً لـ«الانحراف»، بل لكون «الفيروس» اللبناني قوياً جداً، وهو، ربما، سابق على فيروس «كورونا» الذي يكشف نقاط الضعف في الجسد. فـ«الفيروس» اللبناني كاشف لنقاط الضعف لدى عدد غير قليل من الأجانب ممن عاشوا في لبنان مستعمرين أو غزاة أو ضيوفاً، أو حتى عابري سبيل.
الديبلوماسيون الأجانب ليسوا كلهم عرضة للإصابة. لكن من ينجو منهم، يصلح أن يتحوّل خبيراً محلفاً في شؤون «الشعب العنيد». سفير دولة أوروبية كبيرة أسف، في حفل عائلي ضيق قبل مغادرته لبنان، على حال هذه البلاد. ليس على حال سياسييها الذين يعتقدون بأن الدنيا لا تعيش من دونهم، بل على حال مواطنيها الذين يكذبون على أنفسهم طوال الوقت. إذ يشكون كثيراً، لكن ليست صدفة أنهم لم يتمكّنوا يوماً من إحداث تغيير شامل وحقيقي في آلية إنتاج السلطة في بلادهم.
الديبلوماسي العربي أو الغربي، أو حتى الشرقي، الذي يمر في لبنان، يعرف أن مهامه تتجاوز إطار العلاقات التقليدية بين بلدين. وهو، أساساً، يدرك أن ضابط الأمن في السفارة شريك أساسي له في مهامه. صحيح أن محطات الاستخبارات ناشطة في كل سفارات العالم، لكنها في لبنان تلعب دوراً يبدو في بعض الأحيان متقدماً على دور السفير نفسه. إلا أن صاحب التأثير الأكبر اليوم، هو الديبلوماسي الذي يتولى ملف «السلطة الموازية». وهو تعريف يُقصد به كل من يلعب دوراً موازياً للدولة، سواء كان موجوداً في مؤسساتها، أو يملك نفوذاً خارج إطار المؤسسات. يعرف الديبلوماسيون، مثلاً، أن زيارة قصر المختارة أو بنشعي أو بكفيا أو بكركي أو… أمر لا يقف عند طبيعة من هو موجود في الحكم الآن. يعرف هؤلاء أن في البلاد جمعيات ومؤسسات أكاديمية تحفر عميقاً في النظام اللبناني. الجامعتان الأميركية واليسوعية لهما حظوة لا يتمتع بها حزب كبير في لبنان. وما هو مستجدّ، يتجلى في الإطار الجديد للتنظيم البديل، أو «فرقة العمل الناعم» التي تضم عدداً غير محدود من المنظمات غير الحكومية، أو ما يمكن تسميته أحياناً بقوى المجتمع المدني أو الجمعيات والمؤسسات الأهلية… وقس على ذلك ما تشاء من أسماء وصفات هي، في حقيقة الأمر، عناوين لمجموعات تنشط بعيداً من الدولة ومؤسساتها، وبعيداً من أي تقاليد متعارف عليها للعمل السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. هي مجموعات لا يمكن محاسبتها من قبل الشعب أو السلطات. تكتسب حصانتها بمجرد حصولها على «إجازة عمل» من الممول الغربي أو العربي المتصل، أولاً وأخيراً، بحكومة أو سفارة أو حزب حاكم في دولة قادرة. و«الفوضى» اللبنانية، تسمح لهذه الجمعيات أو المنظمات بالعمل بعيداً من أعين الرقابة. وحده الممول يحق له سؤال هذه الجمعية أو تلك عن موازنتها وأنشطتها، و«الشاطر بشطارته». يمكن لجمعية أن تخدع مموّلاً وتنصب عليه، ويمكن لهذا الممول أن يحول جمعية، بكل من فيها، إلى مجموعة مخبرين لديه. لكن القاعدة الأساسية هي أنه لا يحق للشعب اللبناني، ولا لحكومته أو لأجهزته الأمنية والقضائية والمالية – الضريبية، أن تراقب أو تسائل أو تحاسب هذه الجمعية أو تلك. وحده الممول من بيده قرار تشكيلها وحلّها. مع ذلك، تمنح هذه الجمعيات نفسها حق مراقبة السلطات المنتخبة من الناس، بحجة أن انتخابهم تم بطريقة غير شرعية أو غير موثوقة (من الممول)، وتمنح نفسها حق المطالبة بالتغيير، لمواقع حكومية أو نيابية أو حزبية أو لكل أطر قانونية، بحجة أنها تمثل «الغالبية الصامتة»، وهذا ما جرى تعميمه طوال عقود، بينما ترفض هذه الجمعيات ومن خلفها الإقرار بأن غالبية وازنة من الشعب المقيم صوّتت وانتخبت ممثلين عنها في البلديات أو المجالس النيابية واختارت هذا الحزب أو ذاك.
هذا الحشد من الجمعيات ينشط في لبنان منذ وقت طويل جداً. لكنه أخذ شكلاً مختلفاً في العقدين الماضيين. وتحول إلى أداة مركزية في الصراع قبل نحو عقد. وخلال العامين الماضيين، صار أبرز «حيلة» بيد الغرب الذي بات يعيش عقدة الإمساك ببلاد دخلتها «سوسة المقاومة». وإذا كان كثيرون من العاملين في المنظمات غير الحكومية يستهدفون رفع مستواهم المعيشي أو تحسين أوضاع أوساط مهنية أو أهلية في هذا القطاع أو ذلك، فإن الأمر يتحول إلى بعد آخر، عندما يتحوّل الناتج العام لكل هذه الجمعيات إلى فعل سياسي مركّز هدفه واحد: سحق خصوم الغرب في لبنان، كما هي الحال في بلدان كثيرة من العالم، تحوّل فيها هؤلاء إلى حشود تواجه خصوم الغرب من أنظمة أو قوى سياسية!
هذا الحشد من الجمعيات صار أبرز «حيلة» بيد الغرب الذي يواجه بلادا دخلتها «سوسة المقاومة»
«كلن يعني كلن» شعار يمكن رده إلى هذه الجمعيات لو أردنا التصرف بنكاية. لأن التمايز حيال الموقف من المسألة الوطنية لا يبدو واضحاً عند الغالبية، والسبب واضح وبسيط، وهو يتصل بالعلاقة مع الممول. وهذا يعني، ببساطة، أنه عندما يصار إلى اتهام القوى السياسية لبعضها البعض بأن هذه تعمل لأجندة هذا المحور وتلك تعمل وفق أجندة محور آخر، فإن هذه «القوى الناعمة» التي تقدم نفسها بديلاً عن كل هذه القوى، إنما تعمل بدرجة أعلى من الخضوع لشروط المموّل. حصل أن قُلبت القوى الكبيرة في لبنان على بطنها وظهرها مرات عدة. طارت دول وسقطت أنظمة ولا تزال الزعامات اللبنانية واقفة على قدمين وليس على قدم واحدة. بينما يكفي أن تقلص أميركا أو ألمانيا موازنة الدعم لهذه المجموعات حتى نجد قسماً منها قد تبخر في ليلة واحدة، وتشرّد العاملون فيها بحثاً عن مصدر رزق آخر.
المسألة، هنا، تتعلق بالقدرة على محاسبة هؤلاء جميعاً. المحاسبة بمعنى سؤالهم عما يفعلون، وكيف يعملون، ولمن يصرّحون عن تمويلهم، وكيف يصلهم وكيف ينفقونه؟ ولأن الأمر يبدو صعباً، وجدنا في «الأخبار» أن نطرق الباب من زاوية تجميع ما يكفي من معطيات حول الجهات المانحة وكيفية إعداد الموازنات والبرامج وآلية التمويل وحجم الأموال التي وصلت إلى هذه الجمعية أو تلك، ولسنا هنا في معرض الإدانة المسبقة لأي طرف، بل في معرض طرح السؤال المشروع والمحددّ: هل تعرفون ماذا تفعلون وعند من تعملون؟
بالعودة إلى الديبلوماسيين الأجانب الذين يعرفون تفاصيل هائلة عن أمزجتنا وأذواقنا في الطعام والمشرب والملبس والهوايات والرغبات بالسفر، فإنهم عندما يتعرضون للسؤال حول كيفية عمل حكوماتهم أو مؤسساتهم المانحة يتحولون فجأة إلى لبنانيين ويجيبون على السؤال بسؤال: من أنت، وبأي حق تسال؟
الأمر، باختصار، هو حقنا بالسؤال والبحث عن الأجوبة، ومن لا يخشى على شيء من كرامة أو عدالة أو حق، ليس عليه سوى التوضيح، أما من يرى نفسه فوق المحاسبة، فليعلم أنه لا يعدو كونه صوصاً يقف عند أقدام دجاجة لا تبيض ذهباً كل الوقت!