يكثر الحديث في بعض الأروقة السياسية عن سيناريو محوره ضرب الاستقرار، ويتراوح بين تطيير الانتخابات بالحدّ الأدنى، والوصول إلى تسوية يضمن عبرها الفريق الحاكم استمراره في السلطة بالحدّ الأقصى.
لا يستطيع الفريق الحاكم التمديد للبرلمان «على البارد» لثلاثة أسباب أساسية: لأنّ الناس تنتظر الانتخابات من أجل تفريغ غضبها في صناديق الاقتراع، ولأنّ القوى المعارضة للسلطة لن تتهاون مع خطوة من هذا القبيل، ولأنّ المجتمع الدولي لن يتساهل مع أي توجّه للتمديد في ظلّ تشديده على ضرورة إجرائها في مواعيدها الدستورية. ولكن، السؤال المزدوج الذي تطرحه بعض الأوساط يتمثّل بالآتي: هل من مصلحة السلطة إجراء انتخابات تعرف سلفاً أنّ نتيجتها لن تكون لمصلحتها؟ وما الوسيلة الأفضل لتطييرها للانتخابات؟
لا شك بداية، انّ السلطة مأزومة، كونها في وضع الخاسر إن مدّدت وإن لم تمدِّد، وخيارها سيكون الذهاب إلى السيناريو الأقل ضرراً عليها، ويبدو انّها اختارت التمديد أو أكثر من ذلك. وقبل تفصيل ما هو الأبعد من تطيير الانتخابات، لا بدّ من التوقُّف أمام بعض المؤشرات التي تدخل في سياق التوتير المفتعل، تحضيراً وتهيئة لشيء ما قيد التحضير:
ـ المؤشر الأول، يتعلق بالتعطيل المتواصل لمجلس الوزراء، بحجة كفّ يد القاضي طارق البيطار. وعلى الرغم من انّ هذا التعطيل لم يبدِّل في وضعية القاضي وعمله، فإنّ أصحابه ما زالوا مصرِّين عليه، على رغم انعكاساته المالية السلبية، وما ارتفاع الدولار سوى نتيجة لهذا التعطيل، ما يعني انّ المقصود بشلّ الحكومة أبعد من المحقِّق العدلي، وهو الوصول إلى الانهيار الشامل وتحريض الناس للنزول إلى الشوارع.
وبالتوازي، فإنّ رفض رئيس الجمهورية ميشال عون توقيع الموافقات الاستثنائية، من باب الضغط على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي للدعوة إلى جلسة لمجلس الوزراء التي يعطِّل انعقادها حليفه «حزب الله»، يساهم في مزيد من التشنُّج وتعقيد الأمور. فيما السؤال الذي يطرح نفسه: هل المقصود إيصال البلاد إلى الإنسداد السياسي تمهيداً للانفجار الشعبي؟
ـ المؤشر الثاني، يتمثّل بالتسخين السياسي المتعمّد ضدّ المملكة العربية السعودية بحجة اتهام الحزب بالإرهاب، علماً انّ هذا الاتهام ليس جديداً، إنما تقصّد التصعيد من خلال استضافة مؤتمرات وإطلاق المواقف المعادية توتيراً للمناخ السياسي بالتوازي مع الشلل المؤسساتي، وقد لا تكون وظيفة التصعيد ضدّ المملكة محلية حصراً، إنما رداً على الخسائر المتتالية للحوثيين والتهديد بتفجير لبنان مقابل النكسة اليمنية.
ـ المؤشر الثالث، يبدأ من الاعتداء على قوات «اليونيفيل» ولا ينتهي بالهجوم المتواصل على القضاء، وصولاً إلى توسُّل الشارع عن طريق نقابات لا تتحرّك سوى بإشارة سياسية، وتحرّكها لا يمكن تفسيره سوى في سياق التمهيد لمزيد من التحركات والتظاهرات، خصوصاً انّ أحد أسباب التدهور المالي تعطيل الجهة نفسها للحكومة، وبالتالي هل تتظاهر السلطة ضدّ نفسها؟
وما تقدِّم يمثِّل عينة من مؤشرات التوتير السياسي والمجتمعي عن سابق تصور وتصميم. ولكن هل هذه الفوضى المتنقلة هي جزء من سيناريو يرمي إلى الإطاحة بالانتخابات، أم السيناريو الذي هو قيد الإعداد أكبر من ذلك، ويهدف إلى قلب الأوضاع من أجل فرض تسوية جزئية تضمن للفريق الحاكم مواصلة التربُّع في مواقعه السلطوية؟
ـ السيناريو الأول، هو بمثابة الحلّ الجزئي الذي يعفي الأكثرية الحاكمة من انتخابات محسومة نتائجها سلفاً، ولكن كي لا يتحمّل تبعات التمديد إن بسبب أحداث أمنية سيُتهم بأنّه وراء افتعالها، أو عن طريق التحجُّج بقانون الانتخاب، أو بفعل الظروف، الأمر الذي يمكن ان يواجه بعاصفة شعبية ودولية لا مصلحة له في مواجهتها، فضلاً عن عدم قدرته على هذه المواجهة، وبالتالي يجعل من التمديد مسألة طبيعية وبديهية نتيجة الفوضى التي انزلقت إليها البلاد واستحالة إجراء الانتخابات في ظروف من هذا النوع.
ولأنّه من غير المنطقي انتظار مطلع أيار المقبل لافتعال الفوضى المنظّمة، باعتبار انّها ستربط مباشرة بتطيير الانتخابات ونيات الفريق الحاكم تطييرها، فإنّه يعمد إلى هزّ الاستقرار من الباب الاجتماعي، في محاولة لرفع المسؤولية عن نفسه وتحويل تأجيل الانتخابات إلى أمر واقع، يجنِّبه معركة انتخابية يخسر فيها الأكثرية النيابية والأكثرية المسيحية، خصوصاً انّ كل الإحصاءات التي بحوزته خلصت إلى نتيجة واضحة، وهي انّ الرأي العام ينتظر هذا الاستحقاق ليفجِّر غضبه من الواقع المرير الذي أوصلته إليه هذه السلطة.
ـ السيناريو الثاني، يذهب الى أبعد من تأجيل الانتخابات التي لا يعالج تأجيلها أزمات هذا الفريق الوطنية والسياسية والشعبية والمالية، خصوصاً انّ الفوضى تحوّلت أمراً واقعاً في غياب الحلول للأزمة المالية والعزلة الخارجية، والبلاد ستكون عاجلاً أم آجلاً عرضة لهذه الفوضى، ولذلك، يفضِّل التحكُّم بها وفق توقيته، قبل ان تخرج من تحت سيطرته وقدرته على ضبطها، في ظل مخاوفه من ان توجّه ضده على قاعدة مسؤوليته عن إيصال البلاد إلى هذا الدرك.
وأكثر ما يخشاه من الفوضى التي ستنزلق إليها البلاد تلقائياً، وضع المجتمع الدولي يده على لبنان لفرض تسوية بشروطه، كما انّه يتهيّب التشدُّد الأميركي في المفاوضات النووية، ويتهيّب أكثر التحرُّك السعودي على خطّي توحيد الموقف الخليجي، كرسالة ضغط على واشنطن لعدم التساهل مع طهران، وخط الإصرار السعودي على منع طهران من تحقيق اي فوز او ربح اي جولة على أرض الواقع في اليمن وغيره.
ولأنّ الفوضى أصبحت حتمية، ولأنّ قدرته على وقفها مستحيلة، ولأنّ فوزه في الانتخابات متعذِّر، ولأنّ خساراته ستتوالى بدءاً من الانتخابات النيابية، وصولاً إلى خروج عون من الرئاسة الأولى، ولأنّ التوقيت الحالي مثالي ليضرب ضربته قبل الانتخابات والفوضى وانتهاء التفاوض النووي، يلجأ إلى الفوضى المنظّمة، في محاولة لانتزاع تسوية جزئية بشروطه، قوامها سلة مثلثة: تمديد نيابي، وانتخابات رئاسية مبكرة، وحكومة، والهدف من هذه السلة مواصلة تحكمُّه بالقرار السياسي ومزيد من شراء الوقت لسنوات مقبلة.
فـ«المومنتم» الحالي أكثر من مؤاتٍ بالنسبة الى الفريق الحاكم من أجل ان يضرب ضربته في ظل الانشغال الدولي في المفاوضات النووية وانحسار أولويته في لبنان بالاستقرار، فتكون الفوضى المنظّمة باباً لتسوية تضمن استمرار الاستقرار تحقيقاً للرغبة الدولية وتجنّباً للبحث في جوهر الأزمة وسببها، ويتكئ لتحقيقها على بعض القوى التي إما لا تريد الانتخابات، وإما لا تستسيغ المواجهة السياسية.
ويعتبر الفريق الحاكم انّ التسوية بتوقيته وشروطه تبقى أقل ثمناً من تسوية آتية حكماً بعد الفوضى الشاملة وخارج إرادته، فيتنازل شكلاً مقابل ان يحتفظ مضموناً بمصادر قوته، ويجنِّب نفسه مقاربة سلاحه ودوره وإمساكه بالسلطة.
فهل البلاد أمام سيناريو تطيير الانتخابات أم سيناريو التسوية الجزئية؟ وهل تعطيل هذا السيناريو أو ذاك ممكناً، وكيف؟