لا حقد كحقد الجمل.
وهذا الحقد الخاص، والخاص جداً، هو ديدن حكّام تلك البلاد ودينهم، ولأنهم كذلك، وهم حقاً كذلك، فالبلاد التي يمسكون بأنفاسها ليست كغيرها من البلاد. ولا يمكنها أن تكون مهما اشترى «مالكوها» من «حداثة» أو افتعلوا من «تحديث» (مثال «نيوم»). فالأصل العفن، أو القذر، لا يُحجب. وهو أقوى وأبقى من كل محاولات حجبه. إنها بلاد، في واقعها الاستنقاعي المحكوم بالوهابية، يقودها الحقد ويغشاها الجهل ويحكمها القتل. بلاد تسودها ثقافة تُفاخر بقطع الأطراف وحزّ الأعناق وأكل الأكباد وشيّ القلوب… وقد تيسّر للسوريين، وقبلهم العراقيون، معاينة بعض ما يميّز حقيقة تلك الثقافة الظلامية من خلال ما صدّرته من تنظيمات لا قبل للإنسانية بها أمثال «داعش» و«النصرة» وغيرهما… أو من أفكار كمثل إباحة «إرضاع الكبير»، أو «قتل ميكي ماوس»…
لا حقد كحقد الجمل.
وعليه، فإن ما بعد «المنشار» السياسي الذي أطاح سعد الحريري ليس كما قبله. فـ«النقلات» الغبية التي سبقت إزاحة الأخير ومهّدت له (الحملة المسعورة على الوزير جورج قرداحي وما رافقها أو تبعها من تصريحات وممارسات توّجت بسحب السفراء وقطع التواصل…) كما تلك التي تلتها (إعادة استنطاق مستحاثاتها اللبنانية الصدئة من شراذم «١٤ آذار» وتكليفها التحريض البائس إياه… وليس أخيراً معاودة الدفع بالمدعو بهاء الحريري بعد فشل محاولة فرضه بعيد أسر شقيقه وإجباره على الاستقالة نهاية عام ٢٠١٧) قد كشفت حقيقة الخطّة المستنسخة (بتصرّف أحمق!) عن أصل أميركي ــــ إسرائيلي بائس. والتي تهدف، في جوهرها العميق، كما المباشر، إلى تحقيق ما عجز عنه عدوان عام ٢٠٠٦ وكل ما تلاه من حروب أمنية وسياسية واقتصادية بالوكالة أو بالأصالة. فالنيل من المقاومة فكرة وتنظيماً، ومن إنجازاتها التاريخية التي تسجّل في رصيد المنطقة وأحرار العالم وشرفائه بأحرف من نور، فضلاً عن التآمر اليومي عليها، كان وسيبقى هدف تلك الرجعيات الوظيفية ومبرر وجودها.
اليوم، وأمام عجزه عن تبرير فائدته لمشغّليه جرّاء فشل حربه على سوريا وتعثّره في العراق وقرب سقوطه النهائي والحتمي في اليمن، وبالنظر إلى حاجته الماسّة إلى تحقيق ما يسوّقه أمام رعاته وصانعيه، يبدو أن جملنا الحاقد قرّر وعزم على حرق لبنان وإطاحة سلمه الأهلي القلق. ورقة الإملاءات التي وصلتنا عبر ساعي البريد الكويتي مع ما تضمّنته من مطالب لا لبس فيها في كونها تصّب في الطاحونة الإسرائيلية. الدفع ببهاء الحريري كبديل من أخيه إلى جانب القاتل الطليق سمير جعجع وألعبان المختارة وغيرهم لتولي المعركة التي ربما «أحجم» سعد الحريري لأسباب خاصة عن خوضها ضد البلد وأهله ومقاومته، وغيرها من النقلات المتمّمة، تجديد للحرب التي لم تتوقف على لبنان وتصعيد لها. وفي ظنّ جملنا أن يتوّج نقلاته هذه باكتساح الانتخابات النيابية، وتأمين الغلبة التي تتيح له حصار المقاومة أو تعريتها.
فالانتخابات النيابية المقبلة، بالنسبة إليه، هي الفرصة التي يراهن عليها ومعه مشغّلوه لقلب المشهد السياسي اللبناني، ويعوّل على نتائجها وفي باله وبالهم استنساخ نتائج الانتخابات النيابية العراقية الأخيرة المزوّرة. لذلك سوف يعمل على زيادة الحصار وتأزيم الوضع وإلهابه. يشاركه التعويل إياه حشد من مرتزقة ما يسمى بـ«المجتمع المدني»، و«أحزاب» متفسّخة.
التفاعل البيروتي العام السلبي مع الإزاحة، والتعاطف الضمني الذي عبّر عنه الشارع مع ضحية المنشار السياسي الذي ضرب رقبة سعد الحريري يُبنى عليه، ويؤشر على صعوبة النجاح في إحلال الدمى أو تنصيبها. وهنا يسجل أن هذا الشارع لم يتأثر بصمت «دار الفتوى» الذي أقلّ ما يقال فيه إنه مريب، ولا بمسارعة وليد جنبلاط إلى إعلان انتظامه في الحرب الجديدة، عبر التحلّل من أدنى واجبات التعاطف الشكلي مع حليف الأمس القريب. ولعل من شأن مبادرة رئيس الجمهورية إلى زيارة عائشة بكار أن تساهم، إلى جانب خطوات أخرى منتظرة، في إحباط المخطط الذي يريد زجّ ــــ ما يسمّى تعريفاً ــــ الطائفة السنّية في حرب لا مصلحة لها فيها.
مصلحة لبنان اليوم تقتضي الإقلاع عن نهج التذلّل والاسترضاء المجاني، وتوجب على الجميع، وفي مقدمهم ثنائي حزب الله ــــ أمل المبادرة إلى الهجوم لتفويت الفرصة وإحباط المخطط في مهده. وربما يكون ذلك، كبداية لا بد منها، من خلال إعلان الامتناع عن المشاركة في انتخابات مشكوك في شرعيّتها جرّاء حرمان مكوّن سياسي كبير يمثّل سعد الحريري غالبية وازنة فيه من حق المشاركة فيها. وربما كان من شأن هذه الخطوة، وغيرها من الخطوات المتمّمة أن تحمي الانتخابات وهدفها الأساس المتمثل في ترجمة إرادة الناخبين بإيصال ممثّليهم، فضلاً عن تجنيب البلد شرّ ما يراد إيقاعه به من فوضى وتناحر شبيهين بما يشهده العراق النازف.
«الحقد داء دفين، وخطر، وهو نتاج الجهل وسوء الظن والشكّ، والرغبة في الانتقام، والعداوة والتشفّي». أما صاحبنا الجمل فقد أشعل ناراً سترتدّ عليه وتحرق أحلامه وطموحاته الخرقاء.