ثمّة إجماع في الداخل والخارج على ان المرحلة التي يمرّ بها لبنان هي مرحلة مصيرية بامتياز سيقفل معها سجل ليفتح سجل جديد بكل معنى الكلمة وعلى كل المستويات، من السلطة الجديدة التي يفترض ان تفرزها الانتخابات الى الاوضاع الاقتصادية بشقوقها المالية والنقدية والمعيشية والى مستوى ما ستكون عليه طبيعة العلاقات بين القوى السياسية الداخلية وبين لبنان والدول العربية خصوصا والعالم عموما.
ويبدو انه انتظاراً لنتائج تلك الانتخابات النيابية تقرر خليجيا «ربط النزاع» او التهدئة على جبهة العلاقة بين دول مجلس التعاون الخليجي ولبنان بعد الازمة التي عاشتها في الاشهر الاخيرة من السنة الماضية، فجاء الموقف من الرد اللبناني على الورقة الكويتية ـ العربية لاعادة بناء الثقة بن لبنان ودول الخليج، هادئا ومتفهما لقدرة لبنان على تنفيذ بنود من الورقة وعدم تمكنه من تنفيذ بنود أخرى تتصل بالواقع الاقليمي ويحتاج تنفيذها الى تعاون دول الخليج نفسها معه.
ad
وما يؤكد مصيرية هذه المرحلة هو طبيعة الانتخابات النيابية المقررة في ايار المقبل اذا لم يؤجّلها مؤجّل، فنتائج هذا الاستحقاق الدستوري ستكون أول العناوين التي سيُسفر عنها.
وعلى حد ما يقول متابعون راسخون في علم السياسة اللبنانية، فإنه بغضّ النظر عن قانون الانتخاب الذي يقبله هذا الفريق ويرفضه ذاك ويتحفظ عنه الثالث، فإنّ الجميع قرروا في النهاية خوض معاركهم الانتخابية على اساسه وهي معارك تحمل في مطاويها ابعاداً اقليمية ودولية ينتمي اليها المتنافسون المحليون الذين يطمح كل منهم للفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية ان لم يتمكن من الفوز بالاكثرية المرموقة. وبهذا المعنى يرى المتابعون ان ما ستفرزه الانتخابات من مراكز قوى وتوازنات جديدة سيعكس طبيعة السلطة الجديدة وما سيكون عليه الواقع في لبنان والمنطقة. ولذلك، فإن كل التوقعات والمؤشرات تدل على ان هذه الانتخابات ستسجل رقماً قياسياً في كلفة اجرائها وفي ما ستنفقه الماكينات الانتخابية لتزخيم المعارك والتسابق على نيل اصوات الناخبين، فمثلما رصدت قوى سياسية داخلية مبالغ وجنّدت امكانات لخوض الانتخابات، فإنّ قوى خارجية عربية ودولية مهتمة بهذا الاستحقاق الدستوري وكأنّها معنيّة به مباشرةً جنّدت له امكانات كبيرة دعماً لحلفائها فيه، ما يعني في النهاية ان غاية كل من المُنغمسين فيه مباشرة او مداورة هي إنتاج النظام الذي يريد لبنان المستقبل تأسيساً على ما يكون قد كسبه من أكثرية نيابية او من مقاعد تلبّي الحاجة لإقامة لعبة توازن يريدها في السلطة لا تمكّن احدا من الاستئثار بها بمفرده.
على ان المشهد الانتخابي السائد الآن وعلى مسافة نحو ثلاثة اشهر ونصف يدلّ على مستوى بيروت ان المعارك في دوائرها الثلاثة ستكون متفاوتة، لكنّ اكثرها حماوة ستكون في الدائرة الثانية حيث يبرز رئيس حزب «الحوار الوطني» النائب فؤاد مخزومي الذي يشعر انه ابرز المرشحين صعوداً في هذه الدائرة بعد عزوف الرئيس سعد الحريري وتيار «المستقبل» عن خوض الانتخابات، حيث أنه سيخوض المعركة الانتخابية في مواجهة «الثنائي الشيعي» ويسجّل في هذا المجال تصعيد سياسي عالي النبرة بينه وبين «حزب الله»، في الوقت الذي لم يظهر بعد ان اياً من نواب «المستقبل» الحاليين في وارد الترشح خارجاً على طاعة الحريري. فيما ستكون المعركة في الدائرة الاولى حامية بين «التيار الوطني الحر» وحزب «القوات اللبنانية».
ويُجمع المتابعون على ان «أم المعارك»، بل «أمهات المعارك» الانتخابية ستدور رحاها في دوائر جبل لبنان وبعض دوائر الشمال وغيره بين «التيار الوطني الحر» وحلفائه من جهة وبين «القوات اللبنانية» وحلفائها من جهة أخرى للاستحواذ على الأكثرية النيابية المسيحية أولاً واللبنانية ثانياً، في الوقت الذي يوطّن تيار «المردة» نفسه على انّ حصته من المقاعد النيابية في الانتخابات المقبلة إن لم تزد فإنها لم تنقص.
على انّ عزوف الحريري ومعه الرئيس تمام سلام عن الترشح للانتخابات، وفي حال استتبعه عزوف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وبقية رؤساء الحكومة السابقين، سيشرّع الباب امام صعود جيل جديد من النواب في الطائفة السنية في اعتبار أن نواب تيار «المستقبل» الحاليين او محازبيه لن يترشحوا للنيابة التزاماً بقرار الحريري. ما يعني ان نواباً سنّة حاليين من غير «المستقبل» سيشكلون لوائح طامحين لأن يكون لديهم كُتل في طرابلس كما في عكار والبقاع الغربي وفي غيره من الدوائر المتنوعة الانتماء الطائفي.
في هذا الخضم الانتخابي وفي ضوء التجربة التي أثبتت منذ العام 2005 وحتى اليوم أن ما من فريق سياسي حاز الاكثرية النيابية استطاع ان يحكم البلاد بها، يتساءل كثيرون في ضوء الواقع المعيشي الصعب والانهيار الاقتصادي والمالي هل يمكن لفريق سياسي هذه المرة ان يفوز بأكثرية نيابية؟ وإذا فاز هل سيكون قادراً على ان يحكم البلاد بها؟ وهل ان المزاج الشعبي العام الناقم على غالبية الطبقة السياسية ويحمّلها مسؤولية انهيار البلاد سيكون قادراً على تغيير قواعد اللعبة في الانتخابات بإقصاء هذه الطبقة او اضعافها والفوز بأكثرية نيابية او بكتلة كبيرة تغيّر في موازين قوى السلطة لمصلحة ما يطرحه الآن من شعارات تغيير؟
المتابعون يقولون ان احداً لا يمكنه من الآن التكهّن او توقع نتائج دراماتيكية لهذه الانتخابات، بل ان البعض يعتقد ان النتائج لن تكون اكثر مما هي عليه الآن، وانها في حال ازدادت قليلاً فإنها لن تقدم أو تؤخر في المسار العام للبلاد خصوصا في حال ظلت الازمات الاقليمية على غاربها ولم تحصل التسويات الموعودة، حيث ان لبنان تعوّد على مرّ العقود التأثر بأوضاع المنطقة سلباً وايجاباً، وإن حصل تغيير في الانتخابات فسيكون نسبياً وان لم يحصل فإنّ الطبقة السياسية المشكو منها ستعيد إنتاج نفسها وتبقى قابضة على السلطة مطعّمة ببعض الوجوه الجديدة من صنفها الى جانب وجوه قد يتمكن الشارع من إيصالها الى الندوة النيابية.