دخل لبنان في ثلاث مواجهات في وقت واحد، الأولى انتخابية مع التهيئة للانتخابات المقبلة في أيار وسط تعبئة سياسية محورها «حزب الله» لجهة من هو ضده ومن معه، والثانية ديبلوماسية تتصدرها الدول الخليجية لتطبيق القرار 1559 بنزع سلاح الحزب، والثالثة مالية كون التحدي الأساس يكمن في مَن هو قادر على إخراج البلد من أزمته.
تختلف الانتخابات النيابية المقبلة عن الاستحقاقات النيابية الثلاثة التي تلت الخروج السوري من لبنان، فانتخابات العام 2005 خيضَت على وقع خروج الجيش السوري والاغتيالات السياسية والتبريد مع «حزب الله» من خلال التحالف الرباعي مقابل التسخين مع النظام السوري على خلفية اغتيال الشهيد رفيق الحريري ومحاولة اغتيال النائب مروان حمادة، فيما خيضت انتخابات العام 2009 بعد أحداث 7 أيار واتفاق الدوحة الذي انتزع فيه «حزب الله» حق الفيتو وتعطيل أي أكثرية محتملة، وفي ظل انتكاسة انتفاضة الاستقلال بعد استخدام الحزب لسلاحه وفَرملته اندفاعتها باتجاه قيام الدولة.
أما انتخابات العام 2018 فتمّت على وقع التسوية الرئاسية وانفراط 8 و 14 آذار وتقدُّم العنوان المعيشي والمالي والاقتصادي على أثر ما عرف بالحراك الشعبي، فيما العلاقات بين القوى السياسية كانت في حال من التطبيع قبل ان ينفرط عقد هذا التطبيع مع ثورة 17 تشرين التي أعادت خلط الأوراق وتبدّل معها طريقة تشكيل الحكومات من حكومات الوفاق الوطني، إلى حكومات التكنوقراط ولكن غير المستقلين.
والجانب المختلف للانتخابات المقبلة في أيار 2022 يتلخّص بثلاثة عناوين أساسية:
العنوان الأول سيادي بامتياز ويذكِّر بعنوان المواجهة مع النظام السوري في العام 2005 مع انتقال التركيز للمرة الأولى إلى العنوان الإيراني لا الاكتفاء فقط بالمواجهة مع «حزب الله»، وهذا التطور مهم للغاية ويعيد المشهد السياسي إلى بيان مجلس المطارنة الموارنة في أيلول العام 2000 عندما دعا إلى ضرورة خروج الجيش السوري من لبنان، والذي لاقى بعد أقل من خمس سنوات الصدى الدولي مع صدور القرار 1559 وتقاطع التعبئة الداخلية مع التوجُّه الدولي لكفّ يد النظام السوري عن لبنان.
وأكثر ما أغضَب «حزب الله» هو نقل المواجهة من الحيّز اللبناني على خلفية دوره وسلاحه إلى الحيز الإيراني، لأنه يخشى ان يتكرر سيناريو إخراج الجيش السوري من لبنان، وليس طبعاً عن طريق إخراج جيش «حزب الله»، إنما من خلال تحميل طهران مباشرة مسؤولية منع قيام الدولة في لبنان عبر إصرارها على تسليح الحزب واستخدام البلد كساحة من ساحات نفوذها في المنطقة.
فنقل عنوان المواجهة من «حزب الله» إلى إيران يعني انّ الأزمة اللبنانية ليست لبنانية-لبنانية، إنما أزمة إقليمية تستدعي تدخلا إقليميا ودوليا لحلها من خلال الضغط على طهران لكفّ يدها عن لبنان على غرار كفّ يد النظام السوري في العام 2005.
العنوان الثاني ديبلوماسي بامتياز مع التبني الخليجي للقرار الدولي 1559 بعدما تحوّل دور الحزب وسلاحه من مُزعزع للاستقرار اللبناني، إلى مزعزع للاستقرار في المنطقة، ومعلوم ان الدخول الخليجي بقوة على خط الأزمة اللبنانية يشكل عاملاً أساسياً باعتبار ان الدول الغربية غارقة في همومها ومشاكلها ولا تتدخّل في شكل حاسم سوى بعد ان تستوي الأمور معها بشكل كبير، فيما المدخل الأساس لحلّ الأزمات المتصلة في شؤون المنطقة هو في تبنّيها من جانب الدول المعنية في هذه المنطقة، وهذا بالذات ما تقوم به الدول الخليجية وفي طليعتها المملكة العربية السعودية، لأن توازن الرعب الذي يشكل مدخلا للحل هو إقليمي بشكل أساسي، وهذا ما يزعج طهران ويقلقها خصوصا مع الاندفاعة السعودية الاستثنائية.
فالأزمة اللبنانية اليوم تمّ تعريبها أو بالأحرى «خَلجنتها» من خلال تبنيها خليجياً، و«الخَلجنة» تشكل عاملا أساسيا في دفع هذه الأزمة نحو الحلول المطلوبة كونها أزمة إقليمية لا لبنانية والمدخل الرئيس لحلها معالجة أزمات المنطقة برمتها والناتجة عن الدور الإيراني المزعزع للاستقرار في المنطقة إن مباشرة، أو مداورة من خلال أذرعه في أكثر من دولة عربية.
العنوان الثالث مالي-انهياري بامتياز، إذ لم يسبق ان عرف لبنان أوضاعاً انهيارية مشابهة حتى في عز الحرب الأهلية وانعكست سلبا على كل قطاعاته ودفعت بالناس إلى الهجرة وبدّلت في نمط عيش اللبنانيين، وهذا الانهيار ليس وليد لحظته ولم يحصل بالصدفة، إنما نتيجة طبيعة للتغييب المتمادي للدولة ووصول اللبنانيين إلى قناعة راسخة بأنّ الخروج من هذا الانهيار غير ممكن سوى من خلال إعادة الاعتبار لدور الدولة الاستراتيجي.
والانهيار الذي بَدّل في نمط عيش الناس وبدّد مدخراتها وجنى عمرها دفع بشرائح لبنانية واسعة لم تكن منخرطة في المواجهة السياسية، دَفعها إلى الانخراط دفاعاً عن وجودها واستمرارها في هذا البلد وطريقة عيشها، فيما وصل «حزب الله» إلى الحائط المسدود في ظل عجزه عن إخراج اللبنانيين من مأساتهم المعيشية والانهيار المالي وعزلة الدولة الخارجية.
ويستحيل على الفريق السياسي الذي أوصَل لبنان إلى الانهيار ان يخرجه منه، لأن هناك شروطاً أساسية لعودة الاستقرار المالي لا يمكن لهذا الفريق تحقيقها وهي تختصر بثلاثة أساسية: الشرط الأول قيام الدولة، والشرط الثاني إدارة هذه الدولة بعيداً عن المعادلة التي تحكم لبنان بين فريق يغطي السلاح وآخر يمنح السلطة وسط شريعة غاب مشرّعة على كل شيء، والشرط الثالث إعادة وصل العلاقة مع الدول الخليجية، وما لم تتحقّق هذه الشروط الثلاثة يستحيل إخراج لبنان من الانهيار الذي وصل إليه.
فالمختلف في هذه الانتخابات عما سبقها منذ العام 2005 انها تجري ضد النفوذ الإيراني الممثّل بـ«حزب الله»، ووسط انهيار مالي غير مسبوق، والناس متحررة من عقدة الخوف بعدما لم يعد هناك من شيء تخشى خسارته، وتبني الدول الخليجية للقرار 1559 إلى جانب سائر القرارات الدولية وحياد لبنان، خصوصاً بعد ان كان قد دعا البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى الحياد وانعقاد مؤتمر دولي لحل الأزمة اللبنانية وتمّت ملاقاته من جانب الدول الخليجية، ما يعني ان الأزمة اللبنانية خرجت على غرار مرحلة الوجود السوري من لبنان من الحيّز المحلي إلى الحيّزين العربي والدولي.
فلكل هذه العناوين والأسباب مجتمعة وغيرها تعتبر الانتخابات مفصلية، ولا تُقاس حصراً بحجم التبدُّل في المقاعد النيابية، إنما من خلال الجو الشعبي الذي ستولِّده والمترافق مع الضغط الخليجي لإنهاء الأزمة اللبنانية التي أصبح يشكل استمرارها ضرراً على مستوى المنطقة واستقرارها، وفي ظل إصرار الرأي العام اللبناني على إدارة للدولة قادرة على إعادة الاعتبار لدور الدولة السيادي أولاً، وعلى إخراج لبنان من أزمته المالية ثانياً، وعلى إعادة ربط علاقاته مع الخارج ومع الدول الخليجية تحديداً ثالثاً.