غياب المشروع الوطني الجامع يُجهض فرصة التغيير عبر الإنتخابات
تترافق التحضيرات اللوجستية لإجراء الإنتخابات النيابية في لبنان مع تفاقم المخاطر الكامنة وراء تطييرها، في ظل رهان قوى سياسية كلٌ من «خندقه» على تحقيق التغيير من منظاره الضيّق، في غياب البرامج الوطنية «الإنقاذية» والتحالفات القادرة على اجتذاب ثقة الناخبين، وقيام «قوى 8 آذار» بإعادة ترميم تحالفاتها لضمان تجديد مشروعيتها، ما يشكل استمراراً للطغمة الحاكمة وتحللاً لما تبقى من أمل في التجديد. فهل الإفراط في التعويل على الإنتخابات يرتد سلباً على اللبنانيين ومستقبلهم مع إقفال الصناديق؟ وهل للواقعية السياسية مكان في أوج الحملات الإنتخابيّة؟
في خضم التخوف على مصير الإنتخابات النيابية والفراغ في السلطات الرسمية، اوضح أستاذ العلوم السياسية في المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس البروفيسور خطار أبو دياب «أنّ لبنان شهد كل ما نتصوره من ويلات جرّاء الحرب، بحيث بقي مع برلمان ممدد له 4 مرّات منذ 1972 إلى 1992، ليتكرر تعطيل البرلمان عبر تجميد عمله والحدّ من فعاليته بين العامين 2009 و2018، جرّاء سياسة الثنائي «عون – حزب الله» المتحكمين في اللعبة السياسية في لبنان، واعتماد العماد ميشال عون إختصاص إيهام الرأي العام المسيحي باسترجاع حقوق المسيحيين ورفع شعارات بهدف تحقيق مكاسب شخصيّة، في محاولة متكررة لتدعيم نوع من حكم أحادي ديكتاتوري، بعيداً عن أي عمل جدي يساهم في إنقاذ لبنان، ليتضح جلياً في الموازاة، أن «حزبُ الله» الذي لا يهمه بناء دولة فعليّة في لبنان قد يبذل كل الجهود من أجل تأجيل الإنتخابات أو تطييرها وصولاً إلى إلغائها في حال تبيان خسارة الكتلة المسيحية الأولى التي يعتمد عليها من أجل تأمين الغطاء السياسي لسلاحه».
بين الأمل والإحباط
وفي السياق نفسه، يشير مدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت البروفيسور جو باحوط، إلى وجوب عدم الرهان وتوقع قلب المشهد النيابي وتحقيق تغيير جذري في هوية النخب السياسية، مشدداً في الوقت نفسه على أن الإنتخابات ستشكل فرصة للتغيير، من خلال ترجمة الإمتعاض والتعب والقرف بالإقبال على المشاركة والإقتراع بهدف قلب الطاولة.
البروفيسور أبو دياب يلاقي هذا التوجه، ويؤكد «أن الإنتخابات المقبلة لن تشكل بالضرورة فرصة للتغيير لأنها لن تمكّن الدولة من استرجاع سيادتها، في ظل تشتت «القوى التغييرية» وعدم قدرتها على تقديم برنامج بديل، اضافة إلى طبيعة القانون الإنتخابي «المسخ» الذي يمنع التغيير، مشيراً إلى أن وصول 20 أو 30 نائباً في أحسن تقدير من خارج القوى التقليدية ستقف قدرتهم على التغيير عند المحاصصة والتوافق الذي ينسف اللعبة الديموقراطية، موضحاً أنّ الأزمة في لبنان هي أزمة بنيوية حقيقية تفسح المجال أمام بعض الإرهاصات من أجل التغيير، ما يفرض العمل بشكل مشترك من أجل إنتاج نموذج ديموقراطي ملائم للبنان خلافاً للديموقراطية العددية والتوافقية التي اثبتت عدم ملاءمتها للمجتمع اللبناني».
في سياق موازٍ يتوقف أبو دياب عند تجارب «الغرب» المريرة مع الإنتخابات والرهان عليها من أجل تحقيق التغيير، موضحاً «أن الإنتخابات الليبية تأجلت مراراً بعد أن حُدد تاريخ إجرائها في 24 كانون الأول الفائت، لتصطدم الإنتخابات العراقية التي أدت إلى قلب الأكثرية بعدم قدرتها على تشكيل حكومة جرّاء إنتقال موضة الثلث المعطّل من لبنان إلى العراق، في إشارة واضحة إلى أنّ فسحة التغيير في ظل المشروع الإيراني المعطل والمخترق للدول تبقى فعلاً محدودة، بما يوجب عدم زرع اوهام التغيير في الإنتخابات التي يمكن أن تكون عاملاً مساعداً في هذا المسار الذي يتطلب وقف «النفاق الدولي» المُحكم حول لبنان والمساهمة في استرجاع سيادة لبنان كمدخل لإنقاذه من آلامه».
وإذا كانت المعارك الإنتخابية تتطلب إطلاق شعارات ترفع منسوب الأمل، دعا باحوط إلى عدم إيهام الناس كثيراً في التغيير، وذلك للحدّ من أن يتحول الأمل إلى إحباط عميق بعد الإنتخابات، ويفقد الناس إيمانهم بإمكانية أي تغيير عبر العمل السياسي المشروع في البلد، ما يزيد من أعداد المهاجرين اللبنانيين ويتحول البعض نحو الأطر الراديكالية واعتماد أساليب ثورية، وهي أساليب معروفة أن لا أفق لها في لبنان، والقول إنّ الوسائل الديموقراطية لا يمكنها أن تحقق التغيير المطلوب، لتدخل الفئة المتبقيّة على حالة خَطِرة من عدم الإستقرار “APATI”، تلجأ إلى مغادرة الحيّز العام، والدخول إلى الحيّز الخاص في مزيد من الإحباط وعدم الإكتراث، والإهتمام في الحياة الشخصية والمهنية والعائلية والقول إن هذه القصة (أي التغيير) لا نفع منها، وتقدم بذلك فرصة جديدة للقوى السياسية لإعادة السيطرة على السلطة.
ورأى أن المشهد السياسي لا يرتقي إلى القدر المطلوب بعد الخضات الكبيرة التي حصلت منذ العام 2019 والتي كان من المفترض أن تُنتج عرضاً راديكالياً أو سياسياً موحّداً ومبلوراً أكثر من ذلك بكثير، لتبقى العناوين المطروحة للإنتخابات أكانت المرتبطة بالكارثة الإقتصادية ومحاربة الفساد والحوكمة أو تلك المرتبطة في التركيبة والنظام السياسي والإرتباطات الخارجية، وصولاً إلى مقاربة السيادة وما يسمى إحتلالاً، من دون أي خريطة طريق من أجل الخروج من هذا المأزق.
بين السيادة والإصلاح
وإذ لفت باحوط إلى أن انضواء القوى التغييرية تحت برنامج موحد يزيد منسوب المشاركة في الإنتخابات، مقابل إضعاف الشعارات السياسية التي تبقى دون المستوى المطلوب لدى المواطنين، أسف البروفيسور أبو دياب لكون المحطات العديدة في تاريخ لبنان الحديث لم تثمر قيام قوى جديرة بالثقة والتغيير، متوقفاً عند تجربة 14 آذار 2005 التي كانت مسعى للإستقلال الثاني تم ضربها من خلال عدم مشاركة «حزب الله» وفريقه، الذي ارتأى لنفسه لعب دور البديل للوصاية السورية وممثلاً للمحور الإيراني، وفي ظل تقاعس قيادات 14 آذار وعدم قدرتها على مجاراة الوحدة الشعبية المؤيدة لها في الساحات، ليتجدد إنطفاء الأمل بإمكان إحداث تحول نحو التغيير مع إندثار اللحظة التي لم تدم لأكثر من أسبوعين بعد 17 تشرين 2019، جرّاء الإنقسام المذهبي والطائفي الذي اخترق صفوف «التغيريين» وساهم في إعادة تعويم منظومة الفساد والحزب المهيمن على الدولة اللبنانية».
وتوقف أبو دياب عند غياب المشروع الوطني البديل للقوى التغييرية على تعدد اسمائها وأعدادها بما يشكل عامل ضعفٍ لها، وليتحول إلى خطر في ظل هيمنة فريق يعتبر نفسه جزءاً من مشروع «أمة»، يتخطى لبنان والدولة اللبنانية (التي لا تعنيه)، موضحاً أنّه في السابق، ورغم التناقض والحروب والتحالفات الإقليمية لـ»الجبهة اللبنانية» و»الحركة الوطنية اللبنانية»، كان لكل منهما مشروع وطني يتكلم حول لبنان ومستقبله، داعياً إلى إيجاد قواسم مشتركة مع «الطائفة الشيعيّة» كي لا تجد نفسها مستهدفة، عبر الإنطلاق من طرح البطريك الراعي حول الحياد ضمن ما هو ممكن لبنانياً.
وشدد أبو دياب على أن الذهاب إلى الإنتخابات في غياب المشروع الوطني البديل مع تحلل فريق 14 آذار وخروج الرئيس سعد الحريري من المشهد السياسي لن يقدم ولن يؤخر، حتى لو وصل ما يقارب 20 إلى 30 نائباً وأكثر من «القوى السيادية» و»17 تشرين»، لأن القانون الإنتخابي والتحالفات المرتقبة لا توحي بإمكانية تشكيل أكثرية معترضة واضحة، في حين سيجدد «حزب الله» وفريقه شرعيته ويكرر ما قاله قاسم سليماني بعد انتخابات 2018 إلى العالم بأنه يمثل الإكثرية المطلقة في البرلمان، ويعمد بعدها إلى تذويب صوت الكتل المعارضة في حال رُفِع من ضمن اللعبة السياسية اللبنانية الخبيثة.
ما بعد الإنتخابات
لم تختلف مقاربة البروفيسور باحوط كثيراً، إذ رأى «أن المشهد بعد الإنتخابات سيكون أكثر تشرذماً، من خلال تعدد الكتل النيابية وصغر حجمها، ما يدفعها إلى التكتل في ما بينها على معارك ومواضيع آنية مرحلية دون قدرتها على إنتاج قيادة أو برنامج ورؤية موحدة، في ظل صلابة الكتلة الشيعية التي لن تتغير، والتي سيكون بقدرتها إعادة نسج صفقات وتحالفات على القطعة وحسب الموضوع مع القوى الأخرى، ما يزيد من يأس المواطنين الذين لا يرون سوى الصفقات بين السياسيين بعيداً عن تحقيق أيّ تغيير فعلي».
ودعا باحوط المرشحين «إلى بلورة رؤية بديلة، بعيداً عن مقاربة الجو الذي أنتجته الإنتفاضة في 2019 على أنه جوٌ كفيل في قلب الموازين في الإنتخابات، مشدداً على أنه ومن خلال متابعته فإن لا أحد مقتنعاً بوجود بديل جدي في البلد حتى الآن في المعنى الملموس».
وفي موازاة ذلك، حثّ الناخبين على المشاركة في هذه الإنتخابات، «بعيداً عن الشعارات والخدمات الزبائنية المرتبطة بالصعوبات الإجتماعية التي يمرون بها، والتركيز على الجهات التي أوصلتهم إلى هذا الخراب، والجهات التي يمكنها أن تقوم بالإهتمام بمصير أولادهم عبر إعادة ترتيب الأولويات والعناوين التي تتطلبها المرحلة السياسية قبل التوجه إلى صناديق الإقتراع».
وعن عنوان المرحلة أو المعركة الإنتخابية، رأى باحوط «أن من غير المقبول الدخول في صراع على الأولويات بين العناوين السيادية والإقتصادية، مشدداً على تكامل الأولويتين في الأصل من دون وجود تعارض في ما بينهما» مشيراً إلى «أن السيادة لا تتعارض مع الإصلاح والحوكمة والإدارة الصالحة للبلد، ليبقى الدخول في صراع الأولويات والشعارات بين «القوى التغييرية» أقصر طريق لإضاعة البوصلة والهدف.
وفي الختام، شدد أبو دياب على أن «الكيان اللبناني لا يمكن أن يعيش إذا كان من مستقبل له إلا عبر التحول نحو المواطنة والإبتعاد عن المحاور الخارجية والعودة إلى ما أرساه اللواء فؤاد شهاب بأن لبنان دولة مساندة وليس دولة مواجهة، لتبقى الإنتخابات محطة في هذا النفق الطويل. (لبنان دولة مساندة في الصراع العربي الإسرائيلي، ولا علاقة له بالصراعات الإقليمية الأخرى).