كل التوقعات كانت تشير إلى أنّ الحماوة الانتخابية النيابية ستقتصر على الدوائر المسيحية في الاستحقاق المقبل، قبل أن يعيد قرار تيار «المستقبل» خلط الأوراق في دوائر عدة. وفي الوقت الذي حسم «الثنائي الشيعي» مسار الانتخابات من دون اي شريك، يسعى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الى سد بعض الثغرات التي تهدد أحاديثه. ولذلك توجهت الانظار الى الدوائر ذات الثقلين المسيحي والسني اللذين يتقاسمان «النجومية» الإنتخابية. فكيف السبيل الى ترجمة هذه المعادلة؟
قبل ان يقول الرئيس سعد الحريري كلمته الفصل في العزوف والاعتكاف عن المشاركة في الاستحقاق الانتخابي النيابي المقبل وتجميد كل أشكال العمل السياسي، كانت كل المؤشرات تقود الى ان لا انتخابات جدية في دورة العام 2022 سوى في الدوائر ذات الاكثرية المسيحية. وبنسبة اقل في تلك التي يتشارك فيها أقطابها وقيادات اخرى ثقلا انتخابيا يحسم المواجهة بين المرشحين المسيحيين. فلا يعقل ان ينسى اللبنانيون ادوار الرافعات التي لعبها الثنائي «حزب الله» وحركة «امل» وتيار «المستقبل» في تظهير حجم الكتل النيابية المسيحية بالصيغ التي انتهت اليها انتخابات الـ 2018 على مستوى كتلتي «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» بعد سقوط التجربة السابقة التي فرزت اللبنانيين بين معسكري 8 و14 آذار.
امّا وقد سقطت الصيغ والمعادلات النيابية السابقة بطريقة درامية، كنتيجة حتمية للتسوية السياسية في العام 2016 والتي أنهت آخر مظاهر وتشكيلة 14 آذار السياسية والانتخابية لمصلحة «حزب الله» الاقوى الذي اختصر أدوار ما كان يسمّى بقوى 8 آذار. فقد كانت كل التوقعات تَشي باحتمال وقوع معركة انتخابية تقليدية هذه السنة، قبل ان تفشل مساعي التفاهم بين اطراف هذه التسوية بقرار وتوجه جديدين أقدمَ عليهما رئيس تيار «المستقبل» الذي فاجأ الحلفاء قبل الخصوم، خصوصا انه قاد المعركة الى خيارات جديدة يجري توليفها وتجهيزها على قدم وساق بسرعة قياسية وسط أجواء من البلبلة التي قد تقود الى لوائح عجيبة – غريبة إن صَحّ بعض السيناريوهات المتداولة في بعض الدوائر، كما ستفتح المجال أمام امكانية الوصول الى كتل نيابية مُحدثة ومُشتتة في ظل غياب «البوسطات الانتخابية».
قد يكون في ما سبق من معادلات وصور انتخابية لا يحمل جديداً يثير الدهشة والمفاجأة، ان توقف المراقبون امام حال التشتت التي أصابت التحالفات الكبرى التي كانت تقدم صورة مسبقة شبه نهائية عن نتائج ما تفرزه صناديق الاقتراع وفتحت في الوقت عينه الأبواب واسعة أمام إمكان ولادة كتل نيابية جديدة في شكلها ومضمونها. ففي مواجهة التحالفات التقليدية القليلة التي ستتحكم ببعض الدوائر الانتخابية المحدودة جداً، هناك دوائر ستنتهي الانتخابات فيها بتفاهمات تُحيي المنطق الذي أنهته «البوسطات» الانتخابية من دون الحسم مسبقاً بما ستكون عليه أحجامها واشكالها غير التقليدية.
وانطلاقاً من هذه المؤشرات الثابتة منها والمتقلبة، تتجه الانظار الى الدوائر الانتخابية التي تتميز بالأكثرية السنية الساحقة، تلك التي على تماس مع قوى من طوائف أخرى حيث تشهد بلبلة نتيجة فقدان القيادة السنية الموحدة التي كان يمثلها تيار «المستقبل» والأقطاب السنّة، وهي تتحكم بقرارات التجمعات السنية الناخبة بمعطيات جديدة متباعدة متنافرة بين دائرة وأخرى فتعود إلى جذورها العائلية او السياسية السابقة ضمن الإطار الجغرافي لكل دائرة. فالتحالفات الشاملة باتت من الماضي، وكل ذلك يجري قياساً على غياب الراعي الحزبي والسياسي الذي كان يدير العملية الانتخابية على مساحة الوطن. يساوم ويوزّع التفاهمات ومعها الاصوات قياساً على تحالفات تتجاوز الدوائر الانتخابية وكأنها امارات منفصلة ولكل منها نظام وقواعد انتخابية مختلفة بعضها عن بعض.
وما عزّز هذه المعايير، وقاد الى هذه القراءة التي تدعو الى التريث على الاقل الى انتهاء المهل الدستورية التي حددت اعلان اللوائح التي ستخوض السباق الى ساحة النجمة، سيبقى باب المفاجآت مفتوحا على مصراعيه. وما زاد في الطين بلة البيان الذي اصدرته دار الفتوى أمس الأول نافية رعايتها لأي ترشيح كان منفردا او على شكل لائحة. فيما وجّه الرئيس فؤاد السنيورة دعوة لخوض الانتخابات ترشيحا واقتراعا في ظل المخاطر التي تهدد مستقبل البلاد «في ظل سيطرة «حزب الله» على الدولة مُستقوياً بسلاحه»، من دون ان يقدم تصوره لشكل المواجهة المطلوبة. فاكتفى بدعوة المسلمين والجماعة الى المشاركة في الإنتخابات النيابية ترشيحاً واقتراعاً من دون ان يعطيها اي صبغة او نكهة سياسية او هدف موحد كما كان يجري من قبل.
وما كان لافتاً ان موقف الرئيس السنيورة زرع الشكوك حول عدم وجود موقف موحد لرؤساء الحكومات السابقين. وهو أمر لن يطول الوقت لمعرفته بانتظار الموعد النهائي للكشف عن الترشيحات الانتخابية الذي لا يضع الرؤساء الاربعة للحكومات السابقين في خندق واحد. فإن صحّ حديث السنيورة انه على تفاهم مع الرئيسين نجيب ميقاتي وتمام يسلام فسيكون الثلاثة في موقف مناهض للحريري، فهم ليسوا متفاهمين على كل ما يتخذونه من خطوات، لأنّ لكلّ منهم موقفه الى درجة رفعت من حماوة الانتخابات ونجومية المرشحين في الدوائر السنية اكثر من المسيحية.
وأمام هذه الصورة البانورامية للقادة السنة بأبعادها المختلفة، يطرح السؤال عن النتائج المترتبة من خريطة المواقف هذه وسبل مواجهة الطائفة للاستحقاقات الوطنية المقبلة، ومَن يقودها. فقد سقطت بذلك مختلف السيناريوهات التي تحدثت عن قيادة جماعية بديلة من قيادة «المستقبل» تجمع رؤساء الحكومات ودار الفتوى وتفتح النقاش حول مستقبل غامض لا يمكن التكهّن بما سيكون عليه، خصوصا ان الطروحات البديلة التي عبّر عنها بعض القادة الآخرين لا تشكل البدائل المنطقية لقيادة حزبية افتقدت وريثها، وحتى تلك التي تتحدث عن عودة بهاء الحريري الإبن الأكبر للرئيس الشهيد رفيق الحريري الى الساحة السياسية.
وعليه، بُني الرهان في أوساط سياسية وحزبية على الاستراتيجية التي يعتمدها بهاء الحريري على خلفية مواقفه التي تلاقى فيها وقيادات لبنانية مختلفة ومنها الصرح البطريركي، وقد كررها بعد زيارته الاخيرة للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في روما قبل أيام. وما يزيد الرهان على هذا الخيار إن صحت المعلومات التي تتحدث انّ بهاء الحريري الذي يسعى للحفاظ على إرث والده، سيكون له مرشحون على مساحة لبنان ومن طوائف ومذاهب مختلفة، وسيكون داعما لمجموعة من اللوائح التي تجمع عددا من قادة الإنتفاضة و»المجموعات التغييرية» بطريقة قد تفاجئ عددا من الأوساط السياسية والحزبية. فبعض زوار دار الفتوى باحوا بالتفاهمات التي عقدت مع بهاء الحريري سعياً الى كسب اصوات السنة المتفرقين في بعض الدوائر الحساسة في الشمال وعكار والبقاع وصيدا، حيث ان لديه مجموعات كانت منضوية تحت شعار «التنسيقيات المناطقية» المنتشرة على مساحة لبنان، والتي واكبت ثورة 17 تشرين ويمكن ان تؤسّس لكتل نيابية مقبلة تؤسّس لما يريده للمستقبل.