يعرف أبناء الجنوب «مسؤولية (حزب الله) وتعليقه الدولة ومصالح اللبنانيات واللبنانيين على حبل مصالحه وارتباطاته». لم تَرِد هذه العبارة في اجتماع داخلي مغلق، بل استُهلت بها الورقة السياسية لقوى التغيير «التشرينية»، التي أطلقت «الجنوب معاً» معتزمةً خوض الانتخابات في كل دوائر جنوب لبنان، بوجه التحالف المهيمن، الثنائي المذهبي «حزب الله» و«حركة أمل»، وأتباعهما!
في حفل إطلاق «الجنوب معاً»، تظهرت اللغة وتبلورت العناوين وتحددت الأهداف، بحتمية العمل السلمي الجاد لتغيير منظومة التسلط. بدا التشابه عميقاً مع طروحات القوى «التشرينية» الأخرى في «سهلنا والجبل» للبقاع الغربي، و«بيروت تقاوم» الميليشيات ومن فجّرها، و«لقاء التغيير» في عكار و«شمالنا» في الأقضية الأربعة. ولفتت الانتباه القراءة الواضحة القاطعة حيال النكبة اللبنانية، أنها مِن فعل فاعل، «عصابة» نظام المحاصصة الطائفي الغنائمي، الذي «يتحكم بنا وبالدولة وآن الأوان لمحاسبته… كلن يعني كلن»، لتتحدد المواجهة «بين شعبٍ سُرق ودُمِّرت دولته واستُبيح وطنه، وبين منظومة هي المرتكب بكل وضوح».
لم تكن الأمور بهذا الوضوح، فيما كانت كبيرةً رهاناتُ المتسلطين على تعميم اليأس إزاء الانهيارات المالية والاقتصادية والاجتماعية، واتساعها مع الجائحة بعد أشهر قليلة على بدء ثورة «17 تشرين»، وتفاقمها بعد جريمة تفجير المرفأ، وترافقها مع ضربات متلاحقة لمصالح المواطنين والبلد. فبدا أن أولويات المواطنين اقتصرت على السعي إلى تحصيل الرغيف وحبة الدواء، وافتقاد القدرة على إبقاء المواجهة حول الحقوق التي سُرقت والكرامات المنتهكة والإذلال المعمم بالتزامن مع اختطاف الدولة بالسلاح والفساد والطائفية.
وصل الناس إلى وضعٍ حوصروا بالعوز والمجاعة، واتساع البطالة وشح الموارد، نتيجة حملة مبرمجة صنعتها قوى «الثورة المضادة»، مستندة إلى فائض قوة الدويلة التي حمت ارتكابات نظام المحاصصة، وكانت على دراية كاملة بأن البلد سيقع نتيجة نهب الثروة الوطنية والسطو على ودائع الناس. ليتم إملاء التهريب المقونن لتمويل «فيلق القدس» وميليشيات النظام السوري، وتحويل البلد منصة لترويج سموم الكبتاغون باستهداف المجتمعات الخليجية لتكريس عزل البلد واقتلاعه!
كان الهدف من ذلك طي صفحة «17 تشرين»، لأن ثورة حقيقية حدثت لم تكن في الحسبان ولم يتوقعها أحد.. عميقة في أهدافها وغنية توجهاتها وسلمية في مواجهاتها وديمقراطية في أدائها، فبادروا يتقدمهم حسن نصر الله شخصياً إلى استهدافها بالتهديد والتخوين وإلصاق تهم التبعية للسفارات بها، إلى التعديات الجسدية والقمع المنفلت، كما الملاحقات الأمنية والقضائية «غب الطلب»! ليَحول كل ذلك دون بلورة قيادات جدية للثورة فتقدمت حالات صوتية مبرمجة عموماً أحبطت الناس. لكن عام 2022، عام الاستحقاقات الدستورية النيابية والرئاسية والبلدية كذلك وإن تكن منسية من جانب السلطة، فقد بدأ يتبلور ما تأخر ظهوره.
لقد تبدلت الصورة مع بدء إطلاق حملات قوى التغيير التي تسعى إلى أعلى حالة من توحيد ساحات المواجهة، ولا تقلل من وجود آخرين خارجها تسعى لاستيعابهم. واللافت تَمثل في بلورة عناوين برنامج المواجهة التي يتناقلها الناس وتنتشر في طول البلاد وعرضها. أبرزها استعادة الدولة المخطوفة، أي القرار، حتى يكون ممكناً تنفيذ الإصلاح، واستعادة العمل بالدستور حتى تُحمى خطوات الإنقاذ وحقوق الناس، واستقلالية السلطة القضائية الرافعة للمساءلة ولاستعادة الحقوق. وما يلفت الاهتمام هو التوجه إلى المواطنين للمشاركة في اختيار مَن يمثلهم؛ نهج يقول بالتزام إرادة المقترعين لإيصال الأفضل إلى البرلمان، والأفضل يكون نتاج تقاطع الآراء والرؤى، في قطعٍ مع تقاليد منظومة التسلط يوم كان الاختيار بيد زعيم، أو طائفي متسلط، أو ميليشياوي متجبر، مع الضرب بعرض الحائط إرادة الناس، والنتيجة كانت غياب المشرّعين عن المجالس النيابية وحلول التابعين في المقاعد الوزارية لتتلاحق مواسم هجرة الكفاءات!
الأرجح أن ما بدأته قوى التغيير سيقدم الكثير من الوجوه، ويُظهِّر القدرات، ولبنان غنيٌّ بالكفاءات، ما من شأنه توفير دفعة جدية لمشروع قيام جبهة قوى التغيير المدعوة لفرز البديل السياسي. بالتوازي تسارع المنظومة الطائفية لبلورة تحالفات تجمع متسلطين متهَمين بالارتكابات، وبينهم الذين عوقبوا أميركياً كفاسدين أفسدوا الحياة السياسية وقدموا مصالح الدويلة على الشأن العام، ومعهم السياسيون الذين اشتبه بهم القاضي صوان بالمسؤولية عن تفجير المرفأ فأبعدوه، فادّعى عليهم القاضي البيطار بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل فتأمنت لهم الحمايات والحصانات فوق الدم المهدور وترميد قلب العاصمة!
على الأعمّ، لم يعد المقياس والميزان لقياس اتجاهات الرأي العام، ما يحفل به قاموس التحريض الممجوج باتهام الناس بالتبعية، والزعم أن كل من ليس مع «حزب الله»، ينفّذ مؤامرة تستهدف «المقاومة»، وماذا بقي من المقاومة؟ وتقاوم من أجل ماذا؟ وهذا المنحى لتجاوز القوالب الجامدة و«فحص الدم» ليس محصوراً بمنطقة ولا بطائفة، ما أصاب «حزب الله» بصداع لم يتحسب له، ووضعه في موقعه الصحيح؛ في وجه الناس، وهو الطرف القائد لمنظومة التسلط المسؤولة عن نقل لبنان من البحبوحة إلى المجاعة، ونقل اللبنانيين من اليسر إلى العسر، وتحويل مجتمع الرفاهية اللبناني إلى مجتمع من المتسولين!
اليوم الثالث من مارس (آذار) يكون المتبقي 12 يوماً فقط على إقفال باب الترشيحات للانتخابات البرلمانية في 15 مايو (أيار)، أي بعد 73 يوماً فقط، والمؤشرات غياب الترشيحات وعدم إطلاق عمل الماكينات الانتخابية لقوى السلطة، والكل ينتظر كلمة السر! والأكيد أن القرار بالذهاب إلى الانتخابات من عدمه بين يدي «حزب الله»، ومرتبط حتماً بتقديره لمصير أكثريته النيابية الحالية، وحجم التمثيل النيابي المسيحي ضمن هذه الأكثرية الذي يغطي تجاوزاته. فإن تأكد له أنه لا يضمن بقاء هذه الأغلبية لن تكون هناك انتخابات ولن يتردد بتعطيلها، فيوعز إلى واجهة التشريع نبيه بري، بإيجاد التخريجة «القانونية» لخطوته، كما لن يعدم اختلاق الذرائع الأمنية لفرض التعطيل، الذي سيُواجَه بعبارات الشجب والتنديد ولاحقاً التعامل مع الأمر الواقع!
إن استئثار «حزب الله» بالأغلبية النيابية ليس مسألة تفصيلية. وما يجري شعبياً يُقلقه، خصوصاً لجهة تبلور أغلبية شعبية رافضة لتسلطه، فهدد بأن تغيير الأغلبية النيابية لن يمسّ سيطرة الدويلة وتحكمها وفائض قوتها (…)، لكنه يعرف بالعمق أن فقدان هذه الأغلبية يحوّله من مقرر في الاستحقاق الرئاسي في الخريف القادم إلى معطِّل له. وأخذاً في الاعتبار الحالة الرمادية في «فيينا»، وما تمارسه طهران من ابتزاز كأنها المنتصر، وباتت عشية بلوغ العتبة النووية وتأخير الاتفاق يصب الماء في طاحونتها، إلى رغبات الرئاسة اللبنانية التي تخشى انهيار تيارها، يتقدم اتجاه اختطاف أصوات الناس، أي إطاحة الانتخابات، وربط الاستحقاقات في سلة واحدة نيابية ورئاسية، وهذا ما سينقل المواجهة السياسية إلى مستوى مختلف!