IMLebanon

كيف تربح الثورة الانتخابات؟

 

لأول مرة في تاريخ الجمهورية اللبنانية ستواجه قوى السلطة في الانتخابات النيابية، إن حصلت، معارضة من طراز جديد. لأول مرة تهتز أركان المنظومة، استقال نواب من المجلس النيابي. اعتكف الحريري وغادر البلاد. اعترف وليد جنبلاط بقدرة قوى التغييرعلى المنافسة. توقع سليمان فرنجية فوز لائحة المجتمع المدني في دائرته بمقعدين. مؤيدو «التيار الوطني الحر» في ضمور والقوى الطائفية الأخرى مأزومة. وحده الثنائي الشيعي يتظاهر بالاطمئنان لكنه يناور بلوائح رديفة لترويع قوى الثورة.

 

لبنان أمام فرصة حقيقية لإحداث نقلة في طبيعة الصراع السياسي. الانتخابات لتمثيل الناس في البرلمان لا للتمثيل عليهم. مقياس الربح والخسارة في المعركة ليس عدد الفائزين من قوى التغيير، وذلك لأن القانون المعتمد هو الأسوأ في تاريخ الديمقراطيات. ستربح الثورة إن هي نجحت في كسر القواعد المعتمدة التي كانت تتحدد النتائج فيها قبل فرز الأصوات، بصرف النظر عن عدد من يخترق لوائح أهل السلطة.

 

الثورة صنعت وقائع جديدة من بينها ولادة أحزاب جديدة ومجموعات تغييرية أعلنت عن نفسها في الساحات وعلى وسائل الإعلام، وهي إذ تحاول أن تكسب شرعيتها الشعبية من خلال الانتخابات فإن عليها، بحسب تعبير عقل العويط، «أنْ تفرمل هلوساتها وهذياناتها العظاميّة، وأنْ تنظر إلى ذواتها في مرايا العقل لا في مرايا الأنوات المضخّمة».

 

أول شروط نجاحها وحدتها. عدوها الأول شرذمتها وتشتيتها وبعثرتها. قد يحصل ذلك بفعل تآمر قوى السلطة، لكن «الأشد مضاضة» حصوله على يد قوى التغيير بالذات، ونذائره ظاهرة في أكثر من دائرة انتخابية.

 

الشرط الثاني أن تواجه خصماً محدداً موجوداً في الحياة والواقع لا خصوماً وردت أسماؤهم في الكتب والمصنفات. شعار «كلّن يعني كلّن» صحيح جملة وغير دقيق تفصيلاً. كل أطراف المنظومة مسؤولة عن الأزمة، لكن الفارق كبيرجداً، خصوصاً في الانتخابات، بين أن يكون الخطر داهماً وماثلاً وحاضراً أو أن يكون محتملاً أو ملحوظاً في كتب السلف الثوري أو القومي أو الديني أو الطائفي؛ بين مسؤول في آخر التحليل، بحسب التعبير الماركسي، ومسؤول عن انهيار وشيك. المسؤول عن الانهيار الآن، وليس في التحليل التاريخي، هو الذي يتحاصص الحكومة والبرلمان ويمعن في انتهاك الدستور وسيادة الدولة، ويضرب عرض الحائط بالقوانين ويستكمل عملية النهب المنظم ويتهرب من الإصلاح السياسي.

 

اليسار الشيوعي الذي يفترض أن يشكل العمود الفقري للثورة كان موزعاً بين ما تعلّمه في الكتب عن الصراع الطبقي والإمبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية والنظام المصرفي، وبين تعقيدات الصراعات المحلية والإقليمية، فلم يجد في حركة 17 تشرين ما يتطابق مع الصورة النمطية للثورة وفضل أن يسميها انتفاضة، وكان قلبه مع الثوار في كل الساحات وعينه على أطراف هم حلفاء قسريون له في جبهة الممانعة وهم في الوقت ذاته رموز للفساد السياسي.

 

نتيجة موقفه المرتبك هذا، كان من الطبيعي أن تمتلئ ساحات الثورة بمنظمات ومجموعات لم تتمكن من احتلال موقع اليسار الشيوعي على امتداد الوطن، فصارت ظاهرة التعدد والتنوع والكثرة، في وجه منها، تعبيراً عن شرذمة وتفتت وتشتت، وهي ثغرة لا تعالج إلا بولادة يسار جديد أو باستعادة الحزب الشيوعي دوره الريادي في تجميع قوى التغيير، لأن اليسار حاجة لإعادة بناء الوطن. قد يكون موقفه الراهن في هذه الانتخابات على وجه التحديد بداية صحوة تدعو إلى التفاؤل وإلى «تكذيب» كلمة جوزف سماحة الشهيرة، «لا يمكن بناء يسار جديد من دون الحزب الشيوعي، كما لا يمكن بناء يسار جديد مع هذا الحزب الشيوعي».

 

على الثورة أن تواجه رموز المنظومة الستة أو السبعة إضافة إلى المتهمين بالفساد السياسي والمالي، استناداً إلى قاعدة، عدو عدوك هو صديقك، وإلى الموقف من المنظومة لا إلى معايير أخرى متحدرة من مخلفات الحرب الأهلية، واستناداً، بشكل خاص، إلى الموقف من إعادة بناء الوطن والدولة على أسس السيادة واحترام الدستور والمؤسسات. فكم من موقف يدعو في العلن إلى قيام الدولة ويعمل في الخفاء على تقويض دعائمها فيتمسك بالمحاصصة وينفخ في جمر بالطائفية.

 

وعليها أن تولي أهمية للأرقام لأن الأرقام خصوصاً في ظل آليات القانون المعتمد هي وحدها المعيار في صناديق الاقتراع، وهي تقتضي التعاون بصدق بين أهل اللائحة الواحدة لتجميع أكبر عدد من الحواصل الانتخابية، لكنها تتطلب نوعاً من الإيثار بين المتنافسين يقضي بتخلي صاحب الرقم الأدنى لصاحب الرقم الأعلى، وهو ما لا يمكن حصوله إلا بين المتفانين من أهل الثورة، لا بين من يدعوهم عقل العويط إلى «الكفّ عن البهورة المدمّرة للتأمّل والرصانة والتعقّل والتفكير – فضلاً عن الذكاء – والانصراف انصرافاً كلّيّاً إلى وقف الاستعراض على وسائل التواصل (وغيرها)، وإلى الكفّ عن إطلاق النظريّات والأحكام والأوصاف على الأوضاع وعلى الناس، وعن تنصيب نفسكَ عبقريّاً، فهلويّاً، مرشداً، ناقداً، متّهِماً، موبِّخاً، مخوِّناً، ولافظاً الأحكام المبرمة التي لا استئناف فيها ولا تمييز، وكأنّك على قوس محكمة، وقد خلقكَ الله وكسر القالب».