لم يكن يوماً اللبنانيّون الكيانيّون خارج إطار الحرب الكيانيّة التي تُخَاضُ من الوطن الكيان الذي ناضلوا أكثر من ألف وأربعمئة سنة للوصول إلى تحقيقه بشكل دستوري في العام 1920. واليوم بعد مئة سنة من عمر هذا الوطن ما زالت الإشكاليّة هي هي: أيّ لبنان نريد؟ وهل هذا اللبنان الذي نعيش فيه اليوم ما زال يشبهنا وما زلنا نشبهه؟ ما هي الإمكانيّات المتاحة أمام الشعب اللبناني، على اختلافاته الحضاريّة، ليقرّر ماذا يريده اليوم بعد قرن لم يخلُ من الصراعات والتجاذبات الكيانيّة؟
ما لا شكّ فيه أنّ الأكثريّة اللبنانيّة اليوم قد اقتنعت بضرورة تحصين الوطن الذي تريده ليعيش أكثر ممّا عاش ذلك الذي ورثوه من أجدادهم وآبائهم. ولهذه الغاية لا بدّ من الاعتراف أنّ العمل التراكمي الذي قادته مجموعة من اللبنانيّين خلال هذه الأربعين سنة القاسية التي مرّت من عمر الوطن، سيثمر ما يشبههم. وإن طال ليل الظلم فلا بدّ للفجر أن ينجلي. وهذا إيمان وليس قناعة. فدماء الشهداء الذين يسقطون من أجل أيّ وطن لا محالة سيأتي يوم تزهر فيه دماؤهم وطناً. أمّا دماء الشهداء الذين يسقطون لأجل أيديولوجيا توتاليتاريّة ما، فلن تثمر وطناً بل مزيدًا من تبعيّة لهذا الفكر. وهذا بدوره لن يؤثّر لا في سيرورة بناء الأوطان، ولا في صيرورة استمرارها.
لقد قال اللبنانيّون كلمتهم في ثورتين متعاقبتين خلال هذه الألفيّة بفارق أربع عشرة سنة بينهما. فثورة الأرز حدّدت وجهة الكيان اللبناني بأبعاده الحضاريّة التعدّديّة التي على أساسها ستتكوّن قاعدته الكيانيّة. أمّا ثورة 17 تشرين فقد حدّدت الأبعاد السوسيو- إقتصاديّة بوضوح التي على أساسها ستتمّ إدارة هذا الكيان. ولا خلاف بين الثورتين طالما أنّ أكثريّة الشعب اللبناني قد قامت بهما. ولا يمكن لمَن استثنى نفسه من هاتين الثورتين أن يبقى بعيداً من درب الحرّيّة والكرامة لأنّ الشعوب في العالم مفطورة على هاتين القيمتين، وعاجلاً أم آجلاً ستثور حتماً لتحقيقهما.
أمّا اليوم فلبنان الذي نعيشه لا يشبه اللبنانيّين الذين ثاروا في هاتين الثورتين. لذلك المطلوب الآن ثورة ثالثة ولا بدّ أن تكون ثابتة. وقاعدة هذه الثورة مختلفة عن سابقتيها. فقاعدتها هذه المرّة هي قاعدة ديمقراطيّة لمواجهة سطوة ديكتاتوريّة نشوة فائض القوّة غير الشرعيّة، التي ما زالت سامحة لبعض عملاء الاحتلال السوري بالتبجّح في اعتلاء المنابر للمناداة بلُحمَة النّظامين اللبناني والسوري في بعده الجديد، الذي صار اليوم إيرانيّاً بفعل سطوة «حزب الله» على القرارات المؤسّساتيّة اللبنانيّة.
اللُّحمَةُ الوحيدة الموجودة اليوم وأمس وستبقى مستقبلاً هي الوحدة بين الشعب اللبناني والشعب السوري المقهور من نظامه هذا. تماماً كما هي موجودة بين الشعب اللبناني والشعوب العربيّة التي تشبهه بالحرّيّة والتعدّديّة والعدالة. هذا ما وجب تصحيحه بالنسبة إلى مَن لم يتجرّأ بعد من اللبنانيّين ويعترف بالثورتين الماضيتين – الحاضرتين دائماً وأبداً. لذلك، المطلوب من هؤلاء اللبنانيّين كلّهم أن يكونوا الثورة الثالثة الثابتة ويقولوا كلمتهم بالحقّ ليتحرّروا من نير مَن استعبدَهم بقوّة السلاح. ونؤمن أيضاً أن اللبنانيّين لا يمكن إلا أن يكونوا أحراراً.
ولقد باتت خريطة الطريق واضحة أمام الشعب اللبناني، على اختلافاته الحضاريّة، ليقول كلمة الحقّ بهدف التحرُّرِ الحقيقي لا مِن خلال حرب تحرير، كما يزعم أولئك الذين باعوا أنفسهم خدمة للذين سطوا على الحرّيّة؛ بل من خلال صندوقة الإقتراع في الانتخابات القادمة حتماً في الخامس عشر من أيّار المقبل. والمطلوب عندها اتّخاذ خيار لا مجرّد اختيار الساعين إلى مقعد نيابي بهدف حبّ السلطة للسلطة لا أكثر، تحت شعارات تعميميّة تشمل الكلّ «قشّة لفّة» فقط للوصول إلى السلطة. ولا عبر اختيار أولئك الذين يخوضون حرباً كيانيّة خدمة للأبعاد الأيديولوجيّة التوتاليتاريّة لتغيير وجه ووجهة لبنان مع كلّ مَن يتعاملون معهم بهدف تأمين محاصصاتهم ومصالحهم الخاصّة. الخيار يجب أن يكون لمَن يملك القدرات التنظيميّة التي ثبتت في زمن الحرب قدرتها على إدارة ما تبقى من دولة لتسلّم أمانتها عندما استُرجِعَت الدّولة. الخيار يجب أن يكون لمَن ثبُتَ في مبادئه وقِيَمِهِ الإنسانيّة والوطنيّة تحت سياط الجلادين، من دون أن يبدّل لونه كالحرباء ليحفظ رأسه وليؤمّن مصالحه بحجّة حماية بيئته وخوفاً من الاضطهاد. الخيار يجب أن يكون لمَن يريد ويقدر أن يصنع التغيير. لا لمَن يطرح الشعار ويعمل نقيضه، ولا لمَن لا قدرة لديه لتحقيق ما يطمح إليه.
لبنان لن يبقى كما هو اليوم. و»الشعب السالك في الظلمة قد أبصر نوراً عظيماً» مصدره جبال الأرز الضاربة جذوره في عمق تاريخ البشريّة. لا العدد، ولا السلاح، ولا المفاوضات الدوليّة تقرّر مصير لبنان. اللبنانيّون وحدهم هم أصحاب القرار اليوم بين خيار أوّل طامح للسلطة، وخيار ثانٍ يريد تغيير الوجه والوجهة الكيانيّة للبنان، وخيار ثالث يملك المشروع والرؤية والهدف… نحن كلبنانيّين كيانيّين متحرّرين نختار حتماً الخيار الثالث.