في لحظة الإنهماك بالإستحقاق الإنتخابي، المعروفة نتائجه مسبقاً، تَحدّد قبل حصوله السياق المستقبلي للبلاد، وإنحسمت معالم المرحلة المقبلة، (حيث من المرجح أن تكون المعركة على عدد قليل جداً من المقاعد، لا يتجاوز عددها، عدد أصابع اليد الواحدة)، تبعاً للخلل الكبير في ميزان القوى المحلية والإقليمية، بفعل المسار التراكمي الممنهج لإنهيار الدولة ومؤسساتها الدستورية، والإمساك، لا بل ومصادرة قرارها السيادي من جهة، والتقدّم المتسارع في مفاوضات الملف النووي بين إيران والدول الخمسَ زائد واحد من جهة أخرى، دون أن يشمل ملحقاً يتعلّق بمعالجة موضعي الصواريخ البالستية، والمشروع التوسّعي الإيراني-الفارسي في المنطقة، مع أرجحية شطب الحرس الثوري الإيراني ومشتقاته عن لوائح الإرهاب (!) فضلاً عن توقّع رفع تدريجيّ للعقوبات المفروضة على طهران، مما سيتيح لها أريحيّة كبيرة في تثبيت وإنتشار نفوذها في الشرق الأوسط، وزيادة دعمها اللامحدود لأذرعها العسكرية في البلدان التي تمسك بها، و/أو التي تمتلك فيهاً نفوذاً فاعلاً، يجعلها شريكاً أساسياً في تحديد مستقبل الحكم والنظام فيها.
بالتأكيد لبنان المقبل على إنتخابات نيابية في شهر أيار المقبل، هو بالنسبة لإيران الساحة الأكثر إطمئناناً وتهيئة لتثبيت الواقع الذي يصبّ في صالحها، من خلال خلق أرضية جديدة لدورها المتنامي، وبالتالي شرعنته من خلال ثقتها المؤكدة أن حزب الله وحلفاءها من الطوائف الأخرى قادرون على الفوز بأكثرية المقاعد النيابية، مقابل أقلية ضعيفة متصدّعة، يغلب على كثير من أعضائها (الهواة الجدد) الخواء السياسي والفكري، وقلة الخبرة والحنكة، ولا يملكون مشروعاً جدّياً لمواجهة المتغيرات البنيوية التي تسعى إيران من خلال حزب الله إلى إحداثها في النظام اللبناني، القائم على المناصفة الوطنية بين الطوائف.
وما يخدم هذا التوجه الإيراني، عدا قرب ولادة الإتفاق النووي، شبه الإنسحاب الكلّي للإدارة الأميركية من المنطقة، وإنهماك روسيا في حروبها على أوكرانيا، وضعف وعجز الأوروبيين عن أي تأثير فاعل، وتخبّط الدول العربية بمشاكلها، في ظل غياب لأيّ مشروع إستنهاضي يؤهلها للعب دور ولو بحدّه الأدنى في التفاوض على مستقبل الخارطة الجيو سياسية للمنطقة.. إضافة إلى عامل متغير جديد بدأ يلوح في الأفق ويتمثل بالتحوّل في موقف الفاتيكان من حزب الله، الذي عبّر عنه المبعوث البابوي إلى لبنان، بحث اللبنانيين على ضرورة محاورة الحزب كمكون لبناني(!) رغم أن البيان المقتضب الذي صدر بعد زيارة الرئيس عون للحبر الأعظم شدّد على أهمية دور الدولة اللبنانية وسلطاتها من إلتزام الدستور إلى عيشه المشترك، وذلك عبر إلتزام إتفاق الطائف بكلّ بنوده، والحفاظ على دوره الفاعل في محيطه ونطاق هويّته العربية…
هنا يبرز سؤال مركزي: ماذا بعد الإنتخابات النيابية، بنتائجها المحسومة سلفاً، والمعطوفة على تطورات المنطقة؟
الإجابة على هذا السؤال إزاء الواقع القائم والمرشح للإستمرار على صعيد الشرق الأوسط،(في حال لم تتوفر ظروف إقليمية ودولية تقود إلى تشكيل حكومة، وإنتاج توافق على انتخابات رئيس جمهورية) وهذا ما هو مرجح (!) سوف يقود حزب الله (المنتشي بإنتصاره)، بعدما يكون قد حقّق الأكثرية الساحقة، للمضي حتى النهاية في معركته بفرض مرشحه لرئاسة الجمهورية، وتشكيل حكومة تراعي قواعد اللعبة الجديدة وتعكس توجهاته…
في ضوء ذلك التحوّل الجذري، تكون نضجت الظروف أمام حزب الله للمطالبة الصريحة والحاسمة عبر «رئيس جمهوريته»لـ«حوار وطني» (صوري) غير متكافئ، يغيّر قواعد المعادلة الوطنية وأسس ومرتكزات النظام، من خلال الإلزام بإعادة النظر بالتوازنات والأحجام السياسية في التركيبة اللبنانية السلطوية، على قاعدة « الغالب والمغلوب»، تكريساً وتتويجاً لمزاعمه بما حقّقه من إنتصارات على أكثر من جبهة، وبالتالي حمايته للبنان من الإرهاب ومن محاولات الفوضى والنيل من سلمه الأهلي، وكذلك تمكّنه من فك الحصار الأميركي عنه، وإبطال مفعول العقوبات، الأمر الذي سيمكّنه من الحصول على مكتسبات سياسية وسلطوية ومناصبية في مختلف مؤسسات الدولة (على حساب المسيحيين والسنّة)، فضلاً عن تغيير وجه لبنان ودوره ووظيفته على الصعد كافة، لا سيما هويّته العربية، وسياساته الخارجية، ونظامه الإقتصادي والمالي، وتعدده الثقافي والحضاري، وذلك إقتناعاً منه أن ذلك حقاً مشروعاً له، وثمناً مؤجلاً لكل تضحياته التي قدمها، حان وقت تسديده له!!!
بإنتظار الإنتخابات المرتقبة، في حال لم تتبلور ظروف دولية وإقليمية مغايرة لما هو قائم من شأنها تغيير مسار الأحداث والتطورات، وإنتاج تسويات متوازنة، هل تتمكن القوى السياسية المناوئة لمشروع حزب الله من أحزاب وتيارات وهيئات مجتمع مدني من بلورة وإنتاج خطة مواجهة موحدة موثوقة داخلياً وخارجياً (من خارج إصطفافاتها وإنقساماتها وخلافاتها)، تكون قادرة على عدم الإزعان والخضوع لمخطط إستجرار لبنان إلى المحور الفارسي في المنطقة، يحظى بدعم عربي وتأييد من الدول الغربية الصديقة للبنان، لإستعادة التوازن الوطني!؟