كشفت المحنة التي يعيشها البلد هشاشة البنية السياسية الطائفية للسلطة، وعدم مقدرتها على الإحاطة بأبعاد المتغيرات المتلاحقة في العالم بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، وإنعكاساتها المختلفة على بؤر التوتر في الإقليم، وما تُمهّد له من معادلات جديدة في المنطقة.
تخوض الأطراف الحزبية معركة الإنتخابات النيابية وكأنه يتوقف على نتائجها نهاية العالم، لأن البعض ربط مصيره السياسي بما سيُسفر عنه الغبار الإنتخابي، بغض النظر عن إستمرار تردي الأوضاع المعيشية والمالية في البلاد، ومضاعفات هذه المأساة المستمرة على اللبنانيين، الذين يعيشون في دوامات العوز والقلق والخوف مما سيحمله الغد لهم، على إيقاع معظم التوقعات التي تؤشر إلى حالك الأيام المقبلة.
وفيما السياسيون اللبنانيون غارقون في نسج شرانقهم العقيمة حول مكوناتهم الطائفية، تحت شعارات وخطابات شد العصب الإنتخابي، بدأت ملامح مرحلة جديدة تظهر في أفق المنطقة من شأنها أن تُعيد ترتيب أوضاع الإقليم، بعد فترة ليست قصيرة من الإضطراب وعدم الإستقرار.
من زيارة الرئيس السوري بشار الأسد المفاجئة لدولة الإمارات، إلى القمم والإجتماعات التي عُقدت في شرم الشيخ وعمّان والنقب والتي شارك فيها مسؤولون إسرائيليون، إلى إقتراب مفاوضات فيينا من نهايتها بتوقيع الإتفاق النووي الإيراني الجديد، إلى التقدم السريع في المفاوضات اليمنية ــ اليمنية الجارية في الرياض، والتي أسفرت عن هدنة فورية أوقفت كل العمليات العسكرية براً وبحراً وجواً لمدة شهرين قابلة للتجديد، وقضت بإعادة تشغيل مطار صنعاء وميناء الحديدة، والإعداد لعملية جديدة لتبادل الأسرى، مما يعني أن الطريق نحو الحل السياسي للحرب اليمنية لم يعد مسدوداً.
موجة الإنفراجات المتنقلة في المناطق الملتهبة في المنطقة، لم تصل بعد إلى بلدين محوريَّين في الإقليم، هما لبنان والعراق. حيث معطيات التأزم في بيروت وبغداد كثيرة التشابه، وتصل إلى حد التطابق في كثير من النقاط. وإذا كانت التفاهمات الإقليمية، وخلفياتها الدولية قد بدأت تظهر في اليمن وملفات أخرى، فإنها لم تطرق بعد باب الأزمة اللبنانية رغم حدة الإنهيارات التي وصلت إليها الأوضاع في بلد الأرز، وكذلك فإن هذه الموجة لم تبلغ بعد بلاد النهرين رغم أن بغداد تمر بمرحلة فراغ في منصب رئيس الجمهورية، وتعيش على إيقاع حكومة تصريف الأعمال منذ إجراء الإنتخابات النيابية، التي أسفرت عن فوز تحالف الصدر مع الأحزاب السنّية بالأكثرية النيابية، التي خسرها فريق الميليشيات والتيارات الموالية لإيران، وعمدوا إلى تعطيل الإنتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومة الجديدة، بحجة المطالبة بحكومة إئتلافية على الطريق اللبنانية، وعدم التسليم بتولي الأكثرية النيابية الحكم، كما يُصرُّ مقتدى الصدر.
من المفترض أن تساعد بوادر الإنفراج الإقليمي لبنان على تخطي العديد من العقبات للخروج من أزماته المتراكمة، ولكن أداء أهل السلطة لا يوحي بإدراكهم لأهمية التطورات الإيجابية المتلاحقة في الإقليم، بسبب إنشغالهم في مناورات تصفية الحسابات الداخلية مع خصومهم السياسيين، والتلهي بمعارك الكر والفر بين بعض القضاء وحاكم مصرف لبنان والمصارف، الأمر الذي يزيد معاناة اللبنانيين تعقيداً، ويؤخر التوصل إلى الإصلاحات المطلوبة، ووضع قطار الإنقاذ على السكة الصحيحة.
ورغم عجز أصحاب القرار عن مواكبة الأحداث المتسارعة في المنطقة، فإن عودة السفير السعودي وليد بخاري إلى بيروت، التي ستفتح الباب أمام عودة سفراء دول مجلس التعاون الخليجي، وفي مقدمتهم عميد السلك الديبلوماسي العربي سفير الكويت عبد العال القناعي، تُعتبر خطوة مهمة على طريق إعادة العلاقات الأخوية بين لبنان والدول الخليجية إلى مستواها الطبيعي، بعد فترة التأزم الحرجة التي أربكت الجانب اللبناني، وتسببت بأضرار بالغة على الإقتصاد الوطني.
ولعله من لزوم ما لا يلزم القول أن عودة بخاري تحصل على توقيت الإنتخابات اللبنانية، لأن مقدمات الإستحقاق الإنتخابي قد إنتهت، بعد إقفال باب الترشيح وإنتهاء مهلة إعلان اللوائح، وتفرّق الحلفاء وإلتقاء الأضداد.
ولكن هل ستحصل الإنتخابات في ١٥ أيار؟
السؤال مازال مطروحاً رغم كثرة المرشحين ووفرة اللوائح، لأن الوضع الداخلي الهش يبقى عرضة لأية إهتزازات مفاجئة، قد تؤدي إلى تغيير المسار الحالي، وتطيير الإنتخابات، أو على الأقل تأجيلها، ثلاثة أشهر كحد أدنى، كما يسعى فريق العهد بحجة حرص رئيس الجمهورية أن تبقى الحكومة الحالية عاملة بكامل الصلاحيات الدستورية، وتتجنب الشلل الإلزامي في حال تحولت إلى تصريف الأعمال إثر الإنتخابات النيابية، كما يقتضي الدستور، لأن واقع تصريف الأعمال يحول دون إستكمال العهد للتعيينات التي يريدها فريقه في مناصب الفئة الأولى خاصة، قبل إنتهاء الولاية العونية.
العالم يتغير من حولنا..، وأهل الحكم لاهون بمغانم السلطة ومراكز النفوذ!
فمتى وكيف ستصل موجة الإنفراجات إلى لبنان؟